موضة التديّن

موضة التديّن

 

 

تعيد المؤسسة الدينية الرسمية وقوى إسلام سياسي تقاسم الأدوار فيما بينها، مجدداً، من أجل إدامة ضبط المجتمع والسيطرة عليه بذريعة مكافحتها الإرهاب عبر تنظيم مؤتمراتٍ وفعالياتٍ تستضيفها جامعات وأندية وهيئات أهلية، تخلص جميعها إلى تكريس فئة من رجال الدين تحتكر فهماً "معتدلاً" للإسلام، وتستطيع وحدها مجابهة التطرف، بالتوازي مع الجهود الأمنية طبعاً، في إقصاء متعمد لجميع الاتجاهات والأفكار التي تنشد العقلانية والحداثة.

 

وتتواطأ أجهزة الدولة ورأس المال، الذي يدّعي دعم الثقافة والفكر، وخليط من إعلاميين وأكاديميين و"مثقفين" على خلْق أوهامٍ بزعم إصلاح الخطاب الديني، مقابل لطميات تمارسها بقايا الطبقة الوسطى؛ نشطاء في السياسة والثقافة والمجتمع المدني، في محاولةٍ بائسةٍ منهم للحفاظ على مزايا طبقتهم التي يمكن اختصارها للأسف ببعض الحريات الشخصية المتعلقة بأزياء وشراب وغيرهما، في إنكار "مرضي" منهم لزوال تأثيرهم الاقتصادي والاجتماعي منذ زمن بعيد.

 

في أجواء الفوضى والإفلاس هذه، يندلع الجدال حول تنظيم كلية الشريعة في الجامعة الأردنية يومها العلمي في 26 نيسان الحالي بعنوان "الإلحاد بين الموضة والاعتقاد"، وتنظيمها مسابقة فيديو لأقوى وأسرع رد على ملحد خلال ثلاث دقائق –يبدو أنها قد ألغيت-، ويا للسخافة حين تتحول الردود المعقّبة على الفعالية في صفحات التواصل الاجتماعي إلى حرب بين مهزومين "مدافعين" عن الإسلام، وبين مهزومين "معادين" له.

 

يتغافل المنظمون إلى أن نقاشهم حول الإلحاد يشبه من يخاطب نفسه من خلال المرآة، فلا وجود متحقق لملحدين يمكن محاورتهم والرد عليهم في يومهم العلمي، ولا حتى في واقعنا، فما معنى هذه المعارك المجانية المفتعلة التي لا يراد منها سوى الظفر بتعاطف جماهيري وتأييد شعبوي؟

 

ثم أوَلم ينتبه هؤلاء إلى افتقار مناهج كلية الشريعة إلى مواد تدرّس الفلسفة والأديان السماوية و"الوضعية" –كما يحلو للمشايخ تصنيفها- سوى من مقرر أو اثنين يتسمان بالضعف والركاكة، وإلى إقصائهم مناهج البحث العلمي في دراستهم للفقه والحديث والسيرة، وإن خالف مضمونها أبسط قواعد المنطق. فكيف بطلاب تعد معدلات قبولهم في كلية الشريعة هي الأدنى، في الأردن، وبهيئة تدريسية منفصمة عن الواقع تروّج أفكاراً منغلقة ومتعصبة أن يخوضوا في موضوع مثل الإلحاد.

 

كما يجهل هؤلاء التلامذة وأساتذتهم أن الإلحاد وجهة نظر فلسفية قديمة قِدَم الأديان، وأن التاريخ الإسلامي يزخر بأسماء علماء وفلاسفة ملحدين أو لادينيين أو ممن لديهم موقف جذري ضد الإسلام السائد، مثل الرازي وابن الرواندي وجابر بن حيان وابن المقفع والفارابي وابن سينا وغيرهم، وأن التقدم العلمي ما كان له أن يتأسس، حينها، لولا ترجمة الفلسفة اليونانية وتفاعل عدد من المدارس والتيارات العقلانية معها، حيث تركت أثرها الواضح في تمكين فائض القوة والثروة لدى المسلمين وتوطيده حضارياً، وأن توالي انتكاستنا السياسية بدأ منذ أن تخلينا عن العقل، وخضعنا إلى أسوأ تحالف بين دكتاتورية سياسية وعماء ديني.

 

وأن كليات الشريعة هي بدعة جرى اختراعها على يد فقهاء منذ القرن الثاني الهجري، حين حوّلت السلطة الدين من دعوة لإقامة العدالة والإنصاف إلى مدونة فقهية سميت بـ"أحكام الشريعة" لتضم مئات الأوامر والنواهي التي لم يرد بها نص! واستفادت من هذه التعليمات للنيل من الخصوم والمعارضين بالدرجة الأولى، وأنه يمكن النظر إلى الإمام مالك –تحديداً- بوصفه أول وزير أوقاف في التاريخ الإسلامي، ومن وضَع حجر الأساس للمؤسسة الدينية ووظائفها من أجل خدمة الحكْم، وقد خاضت أقسى المعارك حتى ثبتت موقعها بشكل نهائي في القرن الرابع الهجري.

 

ويمكن القول إن هذا التحوّل بدا محتملاً طوال عشرة قرون، بالنظر إلى تقييد يد طبقة رجال الدين الجديدة- الذي انتهى معظمهم إلى تبني التصوف والأشعرية- في كثير من شؤون العامة وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي حين تم توطين الوهابية بأفكارها المتطرفة، وغزوها كليات الشريعة من جاكرتا إلى تمبكتو، وأننا نشهد منذ تلك اللحظة موضة اسمها "التدين"، تُنفق عليها أموالٌ -تكفي لإطعام أكثر من 200 مليون فقير مسلم حول العالم- بغية تصوير الإسلام ديناً مستهدفاً من قبل أعداء يجري خلقهم وفق "مقاس" وغايات محددة ومتغيرة على الدوام، ويتحول المسلمون إلى أفراد في عصابةٍ تشرعن الجريمة لرد الظلم عنها.

 

وعليه ينبغي تذكيركم أن النسخ السابقة ليومكم العلمي تؤشر على ضحالة مضمونه وتشدده، حيث أقيم في العام الماضي تحت شعار محاربة الغلو والتطرف، وكان في مقدمة المشاركين أحد أساتذة كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، وهو مشهور بفتاويه التي تحض على الكراهية والعنصرية، كما ساهم معه متحدثون آخرون في التحريض ضد بعض المذاهب الإسلامية.

 

مفارقة مؤلمة أن تستمر هذه الخديعة بعناوين مختلفة، ولا يجري التساؤل لماذا لا تواجه كلية الشريعة كل هذه الاستثمارات المتناسلة دعاةً وفضائيات ومراكز، رغم أنها تمارس التسطيح والتضليل والتجهيل، بل وتؤازر القتل والترهيب المنظّم باسم الدين، بينما لم يشهد التاريخ الإنساني حرباً أو مجزرة أو تهجيراً قام به الملاحدة!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك