موسم المستقبل
كدت أعتذر عن كتابة مقال اليوم، بسبب موسم الامتحانات، الذي مهما استعددنا له باكراً نجده يفاجئنا، بالرهبة الأزليّة ذاتها، وبالفوضى ذاتها، بعيداً عن المستجدّات الطارئة، ويجد المرء نفسه في حالة إرهاق متتابع، من امتحانات أبنائه في البيت، وطلبته في الجامعة، بل حتّى أصدقائه الذين قرّروا في لحظة ما متابعة دراساتهم العليا، فيخشى من أن يقصّر في حقّ أيّ منهم، ليبقى في حالة طوارئ معلنة إلى اللّحظة الأخيرة.
مرّ اليوم بمكتبي في الجامعة عشرات الخائفين من الامتحان، أشفقت على لحظاتهم الجميلة التي يقضونها مذعورين، يجانبون متعة المعرفة والإنجاز، على الرغم من أنّني أعرف أنّهم سيحصّلون نتائج رائعة! بن كاسنوكا أحد روّاد الأعمال يقول: "إنّنا جميعاً نمرّ بأوقات عصيبة، والأشخاص الأكثر نجاحاً لا ينمون فقط، بل يزدهرون"! لكنّ هذا الخوف موروث، ويعود تأصّله لأسباب عديدة، منها تعامل العائلة المتطرّف مع فكرة الامتحان، وأنظمة التعليم التقيميّي غير المتسلسل، وشكل الاختبارات الموضوعة، وفكرة سلطة الأرقام.
لن نلوم أنفسنا كثيراً حينما نطمئنّ إلى أنّ نابليون خاف من الامتحان، فقال إنّ الدخول إلى قاعة امتحان أصعب من اقتحام أرض معركة، وأعتقد أنّها عبارة منحولة، أو أنّها قيلت في سياق محدّد، يشدّ فيها المحارب العظيم أزر الممتحنين، متعاطفاً مع خوفهم، إذ بعد أن يجد المرء ذاته مضطرّاً لمواجهة الحياة في معارك غير متوازنة، لابدّ من أن ينظر إلى امتحاناته الصغيرة الماضية بكثير من الحنين، والندم على الخوف المفرط الذي لم يكن في محلّه. حياتنا سلسلة امتحانات، وهذا من نافل القول، ثمّ إنّ علينا أن نذكّر طلبتنا أنّ هناك من تشكّل فكرة ذهابه إلى الامتحان قضيّة حياة أو موت، تحت القصف والصواريخ، والعسف، وفقدان كلّ من الحريّة وحقّ التعلّم.
كلّما زاد الوعي صغر الخوف من الامتحان، يظهر ذلك في تجارب الذين تعلّموا على كبر، أو اضطرّتهم الظروف ليتوقّفوا عن التعليم ثمّ عادوا إليه، فهم لا ينظرون إلى الامتحان نظرة أقرانهم، وكذلك هم الذين يتّبعون شغفهم الخام، فيحوّلونه إلى تركيز، ويصير الامتحان لديهم خياراً محبّباً. ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، والحاصل على نوبل في الآداب، قرّر أن يدخل تحدّي الرسم، تعلّمه كبيراً، ورسم أعمالاً متميّزة من مثل "مرّاكش"، و"مشهد تنهرير". لعلّ امتحانه الأكبر كان في السماء، حينما قرّر تعلم الطيران، ونجح، يقول في قضيّة النجاح والإخفاق: "يتشكّل النجاح من الانتقال من فشل إلى فشل من دون فقدان الحماس"، وتكمن مشكلتنا في رفض الفشل المؤقّت.
إنّ الذين يقرّرون تغيير نمط حياتهم يدخلون في امتحان صعب، ويقاومون كي لا يستسلموا في تخلّيهم عن التدخين، أو الإدمان، أو علاقات الحبّ، وتلك الأخيرة امتحانات ليست بالسهلة، فأن يقرّر أحد ما أن يضع حدّاً لعلاقته بمن يحبّ، يكون مثل سمكة تقطع المحيط هرباً من ذيلها!
بمناسبة تغيير نمط الحياة، أتساءل لماذا لا تتخذ السيّدات الأوّل، أو النجمات الشهيرات، في العالم العربيّ قرارات بتغيير نمط حياتهنّ، فتقود إحداهنّ حملة بعنوان "ثوب واحد يكفي"، وذلك تضامناً مع الفقراء والعراة والمنكوبين الذين هم غالباً من مواطنيهم! ما المانع من تكرار الثياب مرّات ومرّات؟ ومن أين جاءت أصلاً فكرة استهجان تكرار الثياب، بالنسبة للشخصيّات الشهيرة في عالم السياسة أو الإعلام؟! الملكة إليزابيث كرّرت ملابسها احتراماً لسياسة التقشّف البريطانيّة. لعلّها مبادرة لطيفة لكنّها غير كافية، حين تكون كلفة تصميم الملابس، حتّى لو كانت مكرّرة، باهظة، لكونها بتوقيع أشهر المصمّمين. كيت ميدلتون كنّة العائلة، كرّرت ظهورها بالملابس ذاتها، وكانت مصداقيّتها أعلى حينما اشترت ملابس من المتاجر العاديّة، الرخيصة نسبيّاً.
أنا لا أطلب من تلك السيّدات أن يكنّ مثل غاندي الذي لبس الدهوتي Dhoti المصنوع من قطن بلاده، والمحلوج بأيدي أبنائها، لكن ما المانع من إطلالات بملابس مكرّرة، بسيطة بشكلها وبثمنها، والبساطة هنا لا تعني ثوباً كلاسيكيّاً ثمنه آلاف الدولارات، بل ثوباً لأيّة امرأة من عصر ما بعد الحداثة، تعيش على هذا الكوكب، لاسيّما إذا انتبهنا إلى أنّ ثمن التصميم الواحد يعالج مريضاً بالسرطان، يتفصّد جلده ألماً، فيجعل حياته أفضل، وقد يشفى تماماً. أعتقد أنّ ذلك امتحاناً ليس صعباً إذا ما فكّرنا بالتشارك الإنسانيّ، لذا أرجو حظّاً موفّقأً للجميع في امتحاناتهم!
- د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".