موتنا الخاص

موتنا الخاص
الرابط المختصر

تتبارى مواقع إلكترونية في نشر خبر وفاة أحد المواطنين مع إشارة إلى آخر ما كتبه الفقيد على الفيسبوك باعتباره شأناً يستحق الاهتمام، وكأننا تحولنا في هذه المنطقة من العالم إلى كائناتٍ تعيش وتموت وفق صدفةٍ عجيبةٍ، وهذه الأعجوبة وحدها هي "الدليل إلى وجود الخالق، ومن ثم الالتفات إلى مخلوقاته".

 

هذا الصنف من الأخبار غدا مألوفاً لدرجة تفرض عليك التفكير في أحد اتجاهين، فإما أن أغلبيتنا باتت تتنبأ بموتها أو تتمناه، وهو ما يقود إلى عمق المأساة التي نحيا، أو أننا تنازلنا عن أبسط قواعد المنطق التي تتوقع وفاة أي فردٍ مهما كان سبب موته، وبذلك صار لزاماً علينا أن نعتقد بحصول "كرامة" أو "معجزة" تستوجب تناولها عبر الإعلام!

 

أتخيل ذلك المحرر ثقيل الظل الذي يكتب "كليشهات" من نوع: "تمنّى الموت فناله"، و"أحس بدنو الأجل"، و"اقتراب شبح الموت"، ورغم سماجة هذه العبارات إلاّ أن هناك من يُدهش لسماعها، وتنتقل عدوى "الاندهاش" بين جموع المتابعين ليطلقوا تعليقاتهم على شاكلة: "سبحان الله" و"حكمته".

 

ينطوي الموت؛ أي موتٍ، على مفارقةٍ بحد ذاته تُشغل البشرية وفلاسفتها منذ فجر التاريخ وحتى يومناً هذا، فلماذا يغدو موت أحدهم "استثنائياً"؟ فقط لأن صحفياً غير ذي موهبةٍ قررّ ذلك، واضعاً صورة الميت إلى جوار "البوست" الأخير له على صفحات التواصل الاجتماعي.

 

وهْم يحكم السواد الأعظم من المجاميع البشرية في هذه البلاد، فلا قيمة لحياتهم إلاّ لحظة مغادرتهم إياها، ولا أعلم ما هو الفارق الذي أحدثه الأحياء منّا حتى تعدّ النبوءة باقتراب الأجل -إن صحت- مسألة يجدر الوقوف عندها، فلدى مراجعة الأخبار المنشورة تجد اجتماعها على الاحتفاء بـ"غرابة" ذلك الموت "المشتهى"، والاستشهاد بآخر أقوال صاحبه.

 

ومع تكرار الموقف نفسه تصبح صناعة "التأثر والأسى" هذه ممجوجةً، ولا تلزمها مصداقية وسيلة الإعلام التي تنشر خبر "وفاة" مواطن، ولا كفاءة محرريها الذين ينزلقون عادةً إلى الدعاية الرخيصة، إنما يكفي أن يتهيأ أناس للقيام بواجب التأثر والأسى العابر.

 

لن تعثر حتماً على سيرة لذلك الراحل تثير الانتباه، غير أن خلو حياته من الإنجازات والآثار التي تخلّد اسمه لم يحل دون إبداء الحزن والتعاطف حيال نهايته التي تظهر لمعظمنا "لافتةً".

 

نهاية لا تتحدد بتوقف أعضائنا عن القيام بوظائفها، بل بموت العقل الذي يركن لتسليم قدره وإرادته لقوى وأفكار لا تمثّله، لذا لا غرابة من تسويق موتٍ مشابهٍ لحيواتنا المقفرة والبائسةً!

 

سأتجاوز موضوع "آخر ما كتبه" الشهداء الذين يتساقطون يومياً في ليبيا ومصر واليمن والعراق وسوريا، فإن وجودهم أو فناءهم لا يعدو أكثر من مادةً لإثارة الحماس لدى طرفٍ في حرب التحريض ضد الطرف الآخر وشيطنته.

 

حياةٌ جافةٌ وموحشةُ في جغرافيا تقدّس الغيب فلا تمنح أولادها سوى خبراً مبتذلاً لموتهم، وربما لا يصلح لوصف هذا المشهد غير أبياتٍ للشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه من كتابه "الفقر والموت"، يقول فيها:

يارب، أعط لكل واحدٍ موته الخاص،

موتاً يكون ناتجاً فعلاً عن حياته،

حيث يجد الحب، والمعنى، والعذاب.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.
أضف تعليقك