من يصحح سردية الاستقلال؟
يصرّ المحتفلون بعيد استقلال الأردن على ممارسة التضليل، وفرض هيمنتهم على ذاكرة المواطنين ووجدانهم، من دون أن يتملّكهم حسّ بالمسؤولية تجاه ما تنذر به الأيام المقبلة من تحديات ومخاطر، وبأن لا أحد يستجيب لدعايتهم بقدر استجابته للخوف والإحباط في دواخله.
طوال 70 عاماً مضت، واصلت الأجهزة الرسمية تكرارها القول إن الاستقلال وقع يوم 25 أيار عام 1946، غير موضحةٍ ما هو تسلسل الأحداث الذي صنع استقلالنا، في إنكار لمجريات التاريخ التي تؤكد أن ذلك اليوم لم يشهد سوى إعلان المملكة الأردنية الهاشمية بديلاً عن إمارة شرقي الأردن، وبذلك أصبح الأمير عبد الله الأول ملكاً عليها، ولم يخرج حينها جندي بريطاني واحد من البلاد.
وإذا حقّ لنا أن نحتفل باستقلالٍ فعلينا أن نستعيد جلاء البريطانيين في الثاني من آذار عام 1956، وهو يوم تعريب الجيش الأردني، غير أن استذكار هذا اليوم، ومعه معركة الكرامة التي تحقق بها انتصار آخر على العدو الصهيوني في 21 آذار 1968، لا يتعدى أكثر من كونهما خبراً يُتلي باقتضاب في نشرات الأنباء.
الاستمرار بهذه الانتقائية يُلزم أصحابها تبيان الأمور وشرحها على صورتها، لنتمكن فقط من الإجابة بصراحة وصدق لأبنائنا وأحفادنا عن سؤال: كيف استقلينا عن الانتداب البريطاني؟
وبالقياس ذاته تستطيع ماكينة السلطة أن تقارب الثورة العربية الكبرى بتقديم المعطيات كافةً، وطرح الروايات جميعها، لا الاكتفاء بتسليط الضوء على جانب وإخفاء تفاصيل وجوانب أخرى، مع التذكير أنه بغير هذا النهج لا تُبنى الثقة بين دولة وأبنائها ولا يمكن الحفاظ عليها مع تقلّب الظروف وتقادم الأزمنة.
الشجاعة المطلوبة في مراجعة التاريخ يجب أن يوازيها عقلانية في مواجهة الراهن، وأولى خطوات التعقل تقتضي التوقف عن إجبار المواطنين على الانضمام لاحتفاليات شكلية لا تُقدّم ولا تؤخر في حبّهم لوطنهم وبذل طاقاتهم وأعمارهم للنهوض به.
نقصد هنا تلك الأوامر والتوجيهات التي تنزل على المدارس والجامعات والجمعيات الخيرية والنوادي الرياضية وغيرها من قبل الحكّام الإداريين لتجهيز حافلات تضم طلاّبها وأعضاءها للمشاركة بمهرجانات في العاصمة ومراكز المحافظات يرفض منظّموها التخلّي عن منطق إقامتها، رغم تبجح مسؤولين عديدين بالتنظير عن تمايزنا عن أنظمة الجوار التي اعتادت قبل سقوطها على حشد الملايين بالشوارع تأييداً لسياساتها.
معظم مظاهر الاحتفاء بالمناسبات الوطنية غير طبيعية ويجري تصنيعها بطرق رديئة، وتثبت صدقية هذه الخلاصة بالنظر إلى غياب هذه المظاهر في مناطق عديدة من عمّان والمحافظات، حيث ينهمك المواطنون بأشغالهم أو البحث عن فرص عمل أو تأمين أقساط قروضهم البنكية أو الرسوم الجامعية أو انتظار حوالات أبنائهم في الخارج لتحسين ظروفهم المعيشية، وجميع هذه الانشغالات وغيرها هي تعبير صادق وحقيقي عن صمودهم وثباتهم في وطنهم لا تعادلها أية انفعالات عابرة بدافع الرهبة أو التملق.
لا يفطن كثيرون إلى أخطار القمع الرمزي عبر وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وقنوات التواصل داخل المجتمع التي تتسبب باستنزاف الفرد ذهنياً ونفسياً وبدنياً من خلال إخضاعه لمنظومة السلطة وخطابها -وهما للأسف الشديد في بلداننا العربية- يستمدّان قوتهما من الماضي ومحاولة تضخيم بطولات ومنجزات لا صلة لها بالواقع، وهو ما يخلق إنكاراً تاماً للواقع وانفصاماً عنه لدى الحاكم والمحكوم معاً.
كيف يمكن لكل هذه المواكب المسيّرة في الشوارع، وكل هذه الأضواء والصور والشعارات التي تملأ أعمدة الكهرباء، وكل هذا الإنشاء المهدور عبر وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والأجهزة الرسمية، أن يحلّ مشكلة مثل قضية "التعزيم" في وادي موسى وينهي أعمال الفوضى هناك.
العنف الذي تمارسه السلطة علينا لن يُنتج إلاّ أفراداً متطرفين سواء اصطفوا معها –وسيُضعفونها بالتأكيد- أو انقلبوا عليها أو تبدلّت ولاءاتهم بحسب المتغيرات، ولا نجاة من دائرة العنف هذه إلاّ بالشجاعة في قراءة تاريخنا، والإيمان بأن الاستقلال لا تنتجه عقول مستقيلة وإرادات مستلبة تتخلى عن العقلانية في التعاطي مع الحاضر، بعيداً عن ماضوية تتشارك بها الأنظمة العربية ومعظم معارضيها كذلك.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.