من قتل حتر؟

من قتل حتر؟
الرابط المختصر

حملت جريمة اغتيال الكاتب الصحفي ناهض حتر دلالات تجاوزت مكانها وزمانها إلى فضاءات أعمق من واقعة إزهاق روحه وربما روح آخرين بعده ممن يختلفون أو يخالفون سفاحي حرية الرأي والتعبير في مجتمع مأزوم يستعذب القتل ويستمرأ التحريض عليه جهارا نهارا.

لقد دقّت الدولة -عن غير قصد- المسمار الأول في نعش الراحل حتر حينما تم الإيعاز إلى الحاكم الإداري بتوقيفه في تضخيم واضح لما حدث وتجاوز غير مبرر من قمة ههرم السلطة التنفيذية لإجراءات التقاضي الاعتيادية التي كانت تقتضي التريّث حتى يتم توجيه اتهام محدد للرجل من سلطة قضائية مختصة بدلاً من إظهار ما قام به على أنه من الأعمال الخطيرة التي "تهدد السلم الاجتماعي".

في الوقت الذي سارعت الحكومة في قمة هرمها إلى اتهام حتر وتوقيفه، غضّت الطرف عن موجات المد العاتي من الكراهية والتحريض على القتل والذبح من خفافيش الفضاءات الافتراضية الذين لم يتركو كلمة بذيءة في قاموسهم إلا واستخدموها ضد الرجل دفاعاً عن الله الذي أمرهم بأن لا يكونوا لعّانين ولا فاحشين!

الحكومة التي انصاعت لتهديدات جحافل التخلف التي ثارت ضد ما يسمى ب"تعديل المناهج" الذي ليس فيه من التعديل شيء، وجدت في قضية حتر ابتداءً وسيلةً لركوب موجة "الغضب" الديماجوجية التي لا تخرج عن كونها انعكاساً لثقافة القتل والتنكيل والتشهير الممتدة منذ قرون والمُسَطّرة في الكتب روايات وسير.

لن نخوض في تساؤلات كلها مشروعة حول عدم توفير حماية للرجل وهو في مرمى التكفير والتهديد العلني منذ إلقاء القبض عليه، ولا عن عدد الذين لاحقتهم السلطات الأمنية من دعاة قتله حتى قبل مثوله أمام السلطات القضائية المختصة... وإنما نتساءل عن التوجه الحقيقي للدولة في ما يخص حرية الرأي والتعبير ومحاربة خطاب التطرف الديني؟

ردود الأفعال الرسمية التي سبقت اغتيال حتر وتلك التي واكبت زوبعة الاحتجاج على "تعديل المناهج" تشي بأن الدولة لا تمتلك بعد الشجاعة وربما القدرة، هذا فضلاً عن الرؤية؛ على اتخاذ موقف حاسم وصارم من مواجهة الخطاب الديني المتطرف المتجذر في المناهج والمسكون تحت المنابر.

موقف الحكومة السابق والمواكب واللاحق على جريمة اغتيال حتر ما هو إلا عامل محفز على ارتكاب فعل يجد صداه وسنده في نصوص وقصص وممارسات لا تنتهي من قتل المخالف وسحقه دون محاكمة أو حتى تثبت في كثير من الأحيان. فكتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لابن تيمية مثلا، يجعل من قتل "المسيء" إلى الرموز الدينية أمرا واجبا حتى وإن أعلن "المسيء" توبته، وذلك استناداً لجملة من القصص التي أُبيحَ بموجبها قتل مجموعة من الرجال والنساء الذين نظموا الشعر في نقد الدين وهجاء رموزه. في المقابل، يعد التكفير بوابة يلج منها قتلة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إلى إشباع غرائزهم الوحشية بإراقة الدماء ورسم خارطة وصولهم إلى الجنة من خلالها.

لو كان ثمة حصافة لتم تأمل وتدقيق السياق الثقافي والديني السائد وتوجهات المجتمع المتطرفة قبل أن يصدر أي قرار توقيف إداري بحق حتر ونعته بصفات تؤجج الشعور الملتهب والمتعطش للدماء في نفوس جانب لا يستهان به من أبناء هذه الأمة التي تبحث عن ضحايا تفرغ فيهم جام غضبها المستعر بحكم فشلها وتخلفها عن ركب التحضر الأخلاقي والقيمي الذي سبقت إليه أمم جعلت من ماضيها تاريخاً وليس حاضراً ومستقبلا كما هو الحال عندنا.

كشفت جريمة اغتيال حتر كما لم يكشف شيء قبلها مستوى التوحش الذي بلغ مداه لدى شريحة لا يستهان بها من أبناء هذا المجتمع، كما أن هذه الجريمة كشفت عن حقيقة موقف وتوجهات الدولة بل وقدراتها على الاضطلاع بعملية إصلاح حقيقي في الحقل التعليمي والديني والثقافي، وهي قدرات متواضعة لا ترقى لحجم المهام الجسيمة التي تتطلبها هكذا عملية. أما الطامحون لمجتمع تسوده حرية الرأي واستيعاب الاختلاف والتنوع، فلا عزاء لهم والعاقبة عندهم بالمسرات.