من ايقظ فينا هذا الانحطاط..؟!
كلما تعافت بلداننا من حمى الانقسامات الطائفية والمذهبية ، وتجاوزت صراعاتها القبلية والتاريخية ، وجدنا بيننا - دعك من اجندات الآخر الجاهزة - من يوقظها من جديد ، ومن يشعل عيدان الكبريت بحقولها اليابسة ، تارة دفاعاً عن الهوية الوطنية ، وتارة باسم حقوق الاقليات ، وتارة باسم السياسة ومحاصصتها المغشوشة.
لا توجد لدينا خلافات مذهبية حقيقية ، فالمذاهب الاسلامية مدارس فكرية خرجت من دائرة التعددية والاختلاف ، وهي دائرة مشروعة في الدين والعقل ، وقد اثرت في حياتنا الفكرية والفقهية ، وشكلت - وما تزال - تراثاً حضارياً تعتز به امتنا ، ولنا ان نتصور دينا أو فكرا بلا مدارس وبلا اختلافات في الفروع والاجتهادات .. فكرا احاديا لا دوائر فيه ولا اتجاهات ، حينئذ يمكن ان نفهم معنى الجمود وعسر التطبيق و الهضم ، والقطع الذي يفضي الى القطبية و الهروب ، والوحشة التي تطفئ القلوب.
ولا توجد لدينا انقسامات في الهوية ، ففي الدائرة الكبرى ثمة هوية اسلامية وحضارية تجمع الكل ، وفي الدائرة الاصغر هوية قومية يتوحد فيها الجميع ، وفي الدائرة القطرية هوية وطنية خرجت من تقاطع هذه الدوائر ، والهوية - هنا - لا يمكن اختزالها في المزاجات الطارئة ، او الذوائق المريضة ، أو في (الكلمة) واللباس ، ولا يمكن انتزاعها من سياقها التاريخي ، او تجميدها في ثلاجة (العصبية) ...أو بعض المواقف الناشزة.
ما حدث ، أن عدوى الانقسامات السياسية اقحمت قسرا وادخلت في عباءة (المذهبية) ، او تحت زاوية (صراعات الهوية) أو في اجندة الطائفية الدينية ، فأصبحنا نتحدث باسم الدين والطائفة و المذهب عن السياسة ونتقاسم ادوارها ومخصصاتها بدعوى الحق المذهبي أو الوطني أو غير ، فيما لا نتذكر أن هذه الارض التي خرجت منها الرسالات السماوية كلها ، وان هذه البلاد التي سبقت بحضارتها بلاد الانوار ، لم يكن اختيارها لهذه المهمة السماوية التي تجمع و لا تفرق بمحض الصدفة ، بقدر ما تمثل رسالة للناس فيها بانها عابرة لكل الحدود التي تصنعها اوهام المذهب او الهوية و الطائفية و الاقلية ، وبانها مهاد للناس و العالمين ... وللسنة و الشيعة من المسلمين ، او لاهل الكتاب من اليهود والمسيحيين ، او للمصريين والسوريين والاردنيين والفلسطينيين.
انه مجرد عبث في النواميس ، تتحمل مسؤوليتة نخب من السياسيين الذين ضلوا الطريق أو من المثقفين الذين اودعوا ضمائرهم في جيوبهم أو غيرهم ممن حمل الاثم ، ولا تحتاج المسألة الى تدقيق فيما يجري وفيما يتغلغل داخل الصدور و الاجندات ، فالعنوان الذي تصدر منه الاصوات واضح تماما ، و الرسالة لم تعد مشفرة ، واللعب على حبال المخاوف مجرد تسديد لفواتير ، أو سحوبات جائرة من الارصدة التي ما عادت مقدسة.
الدستور