مفتاح بيتها
أذكر ذلك اليوم البعيد الماطر في تلك المدينة، التي تشبه عقرب الثواني في ساعة كبيرة عجولة من غير رحمة. وأذكر المدينة في لحظة انتشر فيها رعب مليء بالتعسف في شوارعها يلاحق، في حالات معينة، بمجرد الشبهة العارضة، من له وليس له علاقة.
حينها طرقت بابها عشوائياً، ملهوفاً، أسمع ورائي الخطوات التي أعرف إيقاعها الخَطِر، الذي يستنفر الحواس، ويتصلب له شعر الرأس؛ ففتحت وأدخلتني على الفور من دون سؤال.
لم تسأل من أنا، ولماذا طرقت عليها الباب. واكتفت بالنظر إليّ، ثم أشارت إلى رف فوق مشجب الملابس، قرب الباب، وقالت:
- - خذ، هناك نسخة من مفتاح بيتي!
قلت:
- - شكراً. أحتاج فقط للبقاء ساعة، وربما أكثر قليلاً!
بقيت ثلاثة أيام.
بعد أقل من عام تذكرت تفصيلاً شخصياً حدثتني عنه خلال تلك الأيام الثلاثة التي مكثتها عندها؛ فقررت أن أرد لها الجميل وأشاركها ذلك اليوم؛ فطرقت بابها، ففتحت لي، وأدخلتني، وبدت على نحو مفاجئ كأنما تعرف مسبقاً أنني سأطرق بابها. وفي نهاية اليوم، استوقفتني عند الباب، وأشارت إلى الرف فوق مشجب الملابس، قرب الباب، وقالت:
- - خلِّ معك نسخة من مفتاح بيتي!
شكرتها، وقلت أنني على الأغلب سأغادر البلاد، خلال أقل من شهر. ولكنني بعد أقل من شهر، وجدتني أطرق عليها الباب من جديد. وكنت طريداً تلك المرة؛ ففتحت، وأدخلتني على الفور، من دون سؤال. ولكنني قلت لها مستأذناً:
- - أحتاج للتواري بعض الوقت. يومان وربما ثلاثة.
لم تعلق. ولم تسأل عن سبب حاجتي للتواري، لكنها سحبت سلسلة مفاتيحها وحررت منها مفتاحاً وقدمته لي، وقالت:
- - خذ. خلِّ معك نسخة من مفتاح بيتي!
قلت بامتنان:
- - شكراً، لا أحتاج لذلك.
بقيت يومين.
بعد أشهر طرقت بابها. كنت شريداً، واستقبلت نهار ذلك اليوم، الذي كان ماطراً أيضاً، في مدخل عمارة يقطنها بعض المشاهير، الذين يخشون على أنفسهم، في وقت انتشرت فيه الاغتيالات التي أهم عناصر خطتها أن ينتظر القاتل ضحيته تحت ثنية السلم، حيث كنت أتوارى معرضاً نفسي لخطر الاشتباه بأنني أترصد ساكناً ما.
وكانت تلك العمارة الوحيدة التي استطعت أن أفك الرمز السري لفتح مدخلها في شارع فيه نحو ألف عمارة، وفي ظرف حرج وقاس. وكان عليّ أن أغادر بأبكر ساعة ممكنة، وفعلت. ومشيت على قدميّ إليها، متوارياً بمعطفي المطري وقبعتي.
وفتحت لي الباب، وأدخلتني. وبدت كالعادة كأنما تعرف مسبقاً أنني سأطرق بابها، في تلك اللحظة المبكرة بالذات.
قلت لها:
- - أحتاج لبعض الوقت عندك.
لم تسأل لماذا، ولماذا لا أطرق عليها الباب في غير وقت حاجتي. وقالت لي:
- - كنت أعرف أنه سيأتي يوم توقظني فيه باكراً من نومي. لذا، قلت لك: خلِّ معك نسخة من مفتاح بيتي!
أخذت أعتذر، فقاطعتني.
قالت:
- - أتذكر أول مرة طرقت بابي، وكنت هارباً؟
قلت:
- - أذكر. إنني ألجأ إليك في كل ضيقة.
قالت:
- - بل لم تلجأ إليّ بعد. ويجدر بك أن تفعل، بدلاً من إهدار عمرك في اللجوء إلى بيتي!
لم أجد ما أقوله.
واصلت:
- - تلك المرة. المرة الأولى حينما كنت هارباً رأيتك من النافذة، وناديت عليك، ولم تسمعني. ولكن حمداً لله أن حواسك قادتك إلى بابي.
سألت:
- - هل ناديت عليّ فعلاً؟
- - بلى. أردت أن أستوقفك. لقد كنت تركض، تحديداً، إلى حتفك. وأنت، بالمناسبة، ما تزال تفعل ذلك. وكان حراماً أن يموت شاب في مثل ذلك اليوم المليء برذاذ المطر المنعش. وحرام أن تموت اليوم أو غداً!
- - حقاً!
- - بلى. لذا، خذ. هذه نسخة من مفتاح بيتي. خلِّها معك!
نظرت إلى يدها، ورأيت المفتاح الفضي القاتم على نحو غريب، ولم أملك إلا أن قلت بينما كنت أدفع يدها نحو صدرها.
- - لا. سيكون ذلك منعطفاً لا أستطيع تحمل عواقبه!
قلت هذه الكلمات لأنني تذكرت عجوزاً حكيماً وطاعناً في السن من أوزبكستان قال في نهاية حكاية طويلة رواها لي، وشدتني على آخر وتر: «تذكر. يمكنك أن تكون مستهتراً بينما تعرض عليك امرأة مفتاح قلبها. ولكن إن فعلت ذلك بينما هي تقدم لك مفتاح بيتها، فأنت لست من عامة الخلق. أنت من أرذلهم!».
قالت:
- - إذن، لي رجاء أخير عندك. عدني أنك ستبذل كل جهد أن تموت في فراشك!
قلت على الفور:
- - أعدك!
قالت:
- - لا تتعجل في قطع الوعود.
ومضت الأيام. وخلالها أدركت أنه ليس متاحاً للمرء بسهولة أن يضمن موتاً على الفراش. والأسوأ من ذلك أن أعرف أنها ماتت وحيدة، وراء ذلك الباب الذي كنت أطرقه في كل ضيقة، وكانت كلما عبرته تدعوني لأخذ نسخة من مفتاحه؛ واكتُشِف موتها بعد يومين.
وأنا، اليوم، إذ أأسف على شيء، فعلى أنني لم أجب طلبها بأخذ نسخة من مفتاح بيتها!
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.