معركة الإصلاح … حتى لا نفقد البوصلة ؟!
الدول الكبرى والصغرى، كما الحركات والفصائل الكبرى والصغرى، لا تجد غضاضة في الكذب والافتراء، بل وتبني «الروايات الساذجة» و»الفبركات الصبيانية» للأحداث والتطورات، طالما كان القصد من وراء ذلك خدمة مصلحة ذاتية، أو الإساءة لخصم...آخر نماذج هذا «الكذب المشين» اتهامات الإدارة الأمريكية لإيران، بالتدخل إلى جانب النظام السوري في قمع المتظاهرين والتصدي للاحتجاجات الشعبية الواسعة.
نقول ذلك وفي أذهاننا جملة من الحقائق والمعطيات منها على سبيل المثال لا الحصر: (1) أن المظاهرات والاحتجاجات في سوريا لم تصل إلى لحظة الانفلات والفلتان، أو الخروج عن السيطرة، النظام ما زال ممسكاً بزمام الأمور، لم تسجل عمليات «انفراط» في أوساطه سلطته السياسية وأجهزته الأمنية وأذرعته العسكرية...(2) إن وجود «إيرانيين» في صفوف «قوات القمع السورية» سوف يكون بداية نهاية النظام، أو بالأصح «نهاية نهايته»...(3) أن مصادر الأنباء عن «تدخل إيراني إلى جانب النظام السوري» هي ذات المصادر التي اتهمت حزب الله بالتدخل في إيران لقمع التظاهرات المناهضة للرئيس أحمدي نجاد، فإن كانت إيران غير قادرة على التصدي للمتظاهرين في أوساطها، وتجد نفسها مضطرة للاستنجاد بحزب الله، فهل يعقل أن تكون تحولت إلى قائمة الدول «المُصدرة» لخبرات القمع وأدواته ورجالاته؟.
ذات المصادر التي تعتمد عليها الرواية الأمريكية، سبق لها وأن صرّحت، بأن حزب الله، أرسل عناصر تابعة له إلى درعا لقمع المتظاهرين فيها...حدث ذلك في بواكير انتفاضة المدينة «الحورانية»...ذات المصادر قالت أن حزب الله يتدخل بالتدريب والتسليح والتعبئة والتحريض ضد النظام البحريني وأنه ينشىء ميليشيا شيعية بحرينية للعمل ضد نظام الأقلية السنيّة هناك...أي حزبٍ هذا الذي يتحول إلى رديف استراتيجي، في يد هذه القوة الإقليمية أو تلك، أو في يد هذا الحراك الشعبي أو ذاك ؟!....وبالمناسبة، فإن ذات المصادر سبق وأن تحدثت عن «تدخل سوري» لصالح القذافي، وعن طيارين وأسلحة ومرتزقة أرسلها النظام لنصرة «العقيد في متاهته»، انظروا بالله عليكم، نظام غير قادر على حماية نفسه، ويلجأ إلى الاستنجاد بحلفائه الكبار والصغار، يصدر «الثورة المضادة» إلى ليبيا ؟!.
هذه الروايات التي تصدر عادة عن «خصوم النظام السوري» لا يشبهها من حيث تهافتها، سوى الروايات التي صدرت وتصدر عن أركان النظام السوري والناطقين باسمه في بدايات الأحداث وأثنائها، الذين لم يتركوا جهة إلا وحمّلوها المسؤولية عن اندلاع الانتفاضة والمواجهات، من فلسطينيي مخيمي درعا واللاذقية، إلى «العصابات الإجرامية» العابرة للحدود، إلى شبكات تهريب الرجال والسلاح، التابعة للإخوان المسلمين وعبد الحليم خدام، لكأنه لا يوجد أي سبب كافٍ يدفع بالشعب السوري للخروج إلى الشوارع والميادين والساحات مطالبا بالحرية والكرامة والتعددية والديمقراطية.
لا الشعب السوري بحاجة لمن يحرّضه، فلديه كل الأسباب للثورة والانتفاضة والتمرد والعصيان، شأنه في ذلك شأن مختلف الشعوب العربية، وهو خرج إلى ثورته على أية حال، من دون انتظار او استئذان...ولا النظام السوري بحاجة للاستنجاد بإيران أو حزب الله لمواجهة ثورة شعبه وغضبه، فالنظام ما زال محتفظاً بأوراقه وأدواته وأجهزته، وهو لم يستنفذها بعد، كما حصل مبكراً في ليبيا على سبيل المثال التي وفّرت مثالاً سافراً عن الاستنجاد المبكر بالمرتزقة والبلطجية والزعران.
والغريب أن الولايات المتحدة التي تتحدث عن «شواهد وأدلة» على «التدخل الإيراني، وتدين وتشجب هذه الفعلة النكراء، هي ذاتها، الدولة الأعظم، التي اكتفت بإطلاق دعوات «ضبط النفس» عندما تقرر علناً ورسمياً، إدخال «درع الجزيرة» إلى المنامة، وبتفويض واضح هو القضاء على انتفاضة شعب البحرين...في تجسيد جديد – قديم ومتكرر، لسياسة الكيل بمكيالين المقيتة.
يبدو أن الانقسام السياسي المحلي والإقليمي، الممتد دولياً، قد أصاب بالعمى بعض أطرافه، وحال بينهم وبين قراءة مجريات الوضع في المنطقة بعامة، وفي سوريا على وجه الخصوص...ولقد كانت إشارتنا في مقالة أمس الأول عن وجود «مؤامرة» على هامش الـ»انتفاضة» في سوريا، مدعاة لغضب كثيرين وانفعالهم، خصوصاً من الفريق المناهض لسوريا، والذي ذهب حد النفي التام لوجود أي شكل من أشكال التآمر على سوريا...لكن الصدفة، والتي هي أحياناً خيرٌ من ألف ميعاد، تدفع بجريدة «الأخبار» اللبنانية في اليوم التالي، إلى نشر وثائق ويكيليكسية جديدة، تفضح فصولاً من هذه «المؤامرة»، وتكشف عن ضلوع ذات الأطراف والأشخاص والتيارات التي تناولناها في مقالتنا المذكورة في هذه المؤامرة...ولمن يريد أن يعرف أكثر عمّا نتحدث، ندعوه لقراءة عدد الأمس من الجريدة المذكورة...ألم يُقل من قبل: ويأتيك بالأخبار من لو تزوّد ؟!.
إن الحماس لثورات الإصلاح والتغيير في العالم العربي، وبالذات في سوريا، ونحن من المتحمسين لهذه الثوارت والمتشوقين لرؤية راياتها المظفرة ترتفع فوق مختلف الساحات والميادين، لا يجب أن يفقدنا البوصلة، ولا ينبغي أن يدفعنا إلى «تبرئة» أطراف ضالعة في «التآمر»، تورطت من قبل، ولمّا تزل، وما بدّلت تبديلا...لا ينبغي أن يحجب عن أنظارنا الفارق بين «غث» الدعوات الإصلاحية و»سمينها»، فممثلوا السلفية في جرود الضنية وعكار ليسوا إصلاحيين...والمحافظون الجدد في مدن الرمل والملح ليسو إصلاحيين...وليس كل ما يصدر عن واشنطن من مواقف وتصريحات واتهامات، يصب في خدمة المشروع الإصلاحي العربي، ألم ترع الدولة الأعظم نظم الفساد والاستبداد لسنوات وعقود، ولمّا تزل ترعاها بكل ما توفر لها من عوامل القوة والاقتدار ؟!.
الدستور