مطبخنا يدلّ علينا

مطبخنا يدلّ علينا
الرابط المختصر

 

نادرةٌ هي أدبيات الطبخ في ثقافتنا العربية، وربما لن نجد مراجع متخصصة تدرس التحولات الكبرى والممتدة التي عصفت بمطبخنا، رغم حاجتنا الماسة إلى بحث أنثروبولوجي معمق حول طعامنا وأزيائنا ومعمار بيوتنا وغيرها، وصلتها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي.

 

باستثناء إشارات محدودة في كتب التراث عن قائمة الأطباق الرئيسية والحلويات والمشروبات، فإن معرفتنا بأهم نشاط إنساني نقوم به تعاني فقراً شديداً لا مثيل له!

 

كثيراً ما تمعنت بالحضور الكثيف لمادة الملح واستعمالاته في معظم طبخاتنا، مقارنةً بثقافات شعوب أخرى، ولم يقنعني الراحل صدّام حسين حين ربط بينه وبين الغيرة التي تميّز مجتمعنا الشرقي في أحد خطاباته المطولة، التي سبقت غزو العراق، فيبدو أن مكر التاريخ ومرواغة السياسة لم يحفلا بتفسيراته لطعم "الملوحة" في حياتنا.

 

أساطير الملح لا تنتهي، ومنها أن الفينيقيين هم من نقلوه إلى العالم، وكذلك الحروب التي اندلعت بسببه، وسيتوقف الدراسون يوماً عند استخداماتنا المتعددة له، منذ زمن بعيد، حيث حفظ الفراعنة السمك به، وتناولوا "الفسيخ" المملح احتفالاً بعيد شم النسيم، لكن الاستخدام الأبرز له يتمثل باختراع المخلل الذي عرفته حضارات المنطقة القديمة، قبل أكثر من 2400 عامٍ، وقدّموه "مازة" لخمورهم، التي ظلت ممدوحة الشعراء، وحاضرةً بصنوف تجاوزت العشرات في مدونات المؤرخين حتى نهايات العصر العباسي، قبل أن تُنحى عن موائدنا لدواعٍ غير معروفة إلى اليوم.

 

تحريم الخمرة المتأخر، منذ بضع مئات من السنين لا غير، شكّل انقلاباً في مطبخنا العربي، حيث فقد عنصراً من عناصره الأساسية، الذي من أجله ابتكرت أطعمة كثيرة لا يزال بعضها موجوداً، وبغيابه حُرمنا إمكانية إضافة أطباق جديدة، كما هو شأن بقية المطابخ في العالم.

 

على كل حالٍ، بقي هناك رابط خفي يصل "الراح" بموائدنا يعلمه جيداً ما يمكن تسميتهم بـ"خبراء الهامش"، وهم موجودون في العديد من القطاعات الحيوية التي خضعت للمنع عبر تاريخنا.

 

انتعشت "صناعة الرفاه" من شرابٍ وحلويات إبان حكْم العباسيين، في الفترة ذاتها، التي ازدهر خلالها العلم والترجمة وتأسست مهنة التدوين والنشر، وربما يتمتع المطبخ الذي نشأ ما بين دجلة والمتوسط (الهلال الخصيب) بسمتين أساسيتين: طبْخ كل ما جادت به الطبيعة المحيطة بل إبداع تنويعات لا تحصى منها، والانفتاح على مطابخ الجوار الفارسي والهندي والروماني، تماماً مثلما ترجموا آثارهم المعرفية وأضافوا عليها.

 

تعتبر حلب إحدى أهم حواضر الطبخ في مشرقنا العربي، وتذكر بعض الوثائق التي قدّمت في أثناء احتفالية الشهباء عاصمةً للثقافة الإسلامية أكثر من 60 نوعاً من الكبة كانت تعدها المدينة الشهيرة بصناعاتها، حيث نقلها الأتراك إلى مطبخهم حين استولوا عليها وجلبوا أبرع طهاتها إلى قصورهم، وزادوا عليها بالطبع مع مرور السنين.

 

غير أنه لم يجري الالتفات إلى إرث حلب الغني، في تلك المناسبة، إذ نقلت وسائل الإعلام حينها عن توافد الآلاف للاستماع إلى محاضرة طارق السويدان وغيره من الدعاة، بينما تابعت القلة بقية الأنشطة التي ناقشت وقائع التاريخ وأعلامه البارزين في حاضرةٍ يزيد عمرها عن خمسة آلاف عام!

 

عراقة الماضي قد لا تغري أحداً، فهاهي مدننا الأثرية بعمارتها المدهشة وشواهد حضارة بناتها تجاور تجمعات عشوائية من أبنية وسكانٍ لا يميزهم سوى فقرهم وتخلفهم، وعليه فإن أمجاد طبيخنا لا تستهوي من انتفضوا منذ سنوات في مدننا العربية من أجل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية قبل أن تُسرق أحلامهم بالتغيير.

 

ومع ذلك، فإن جوع الملايين للرغيف لا يلغي أهمية تتبع التطورات التي لحقت بشكله وتنوع مشتقاته، لكنها لم تزحزح مكانته في حياتنا، فليس من سبيل لوصول هذه المجاميع العربية المفقرة إلى الشبع بلا "غموس".

 

التجوّل في عالم الطبخ وخفاياه يحتاج بحثاً ومنهجية سيوصلانا إلى حقائق مثيرة نجهلها عن أنفسنا وهويتنا ومجتمعنا، لعلنا نفهم تراجع ذائقتنا في الطعام يوماً بعد يوم، وأن مطبخنا يكاد يتحول إلى مجرد فلكلور وزينة، بينما ينتشر المطبخان الإيطالي والصيني –مثلاً- في أنحاء المعمورة بسلسلات وماركات مسجلة ومعتمدة دولياً، خلافاً لأغلب المطاعم اللبنانية التي أسسها مهاجرون في دول أميركا اللاتينية، وتؤشر على نجاحات شخصية لأفرادٍ متميزين.

 

من المؤكد أن الأمر لا ينحصر بمأكلنا، فانحدارنا يتواصل على كافة الأصعدة والمستويات، لذا ليس من المستغرب "غزو" المطبخين الإيراني والتركي لبلادنا، مع التنويه إلى أن المطبخ الأخير يعدّ أساساً لانتعاش السياحة في تركيا.

 

قد يغيب عن بال كثيرين أن الفعل "طبَخ" في لغتنا العربية يشير إلى نشاطٍ جماعيٍ يتطلب مهارة "الطباخين" في التحضير والتدبير والإعداد لنحصل في النهاية على طعام "ناضج"!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك