مصر والمنطقة و«ما بعد مبارك»

مصر والمنطقة و«ما بعد مبارك»
الرابط المختصر

المنطقة تحبس أنفاسها.. والعالم كذلك.

الجميع يريد أن يعرف أين تتجه مصر ، وكيف ستتحول وإلى أي حد ومدى.. الجميع يريد أن يعرف في أي خندق ستصطف وإلى أي معسكر ستنحاز.. الجميع يريد أن يطمئن إلى توازنات القوى الداخلية في بلاد النيل: الجيش ، الإخوان ، المجتمع المدني ، الأحزاب ، البيروقراطية التقليدية والشباب ، الداخل والخارج.

الجميع يُخمّن ويتكهن.. الجميع لديه تقديرات ورغبات.. الجميع من دون استثناء يريد أن يسقط رغباته أو بالأحرى يريد أن يتشبث بقراءة "رغائبية" للحدث المصري.. لكن لا أحد من هؤلاء نجح في أن يكون "جهينة" ، لا أحد لديه الخبر اليقين.

لكنها مصر ، بكل ما تمثل ومن تمثل ، تغري الجميع على الدخول في لغة الاحتمالات ورياضيّاتها ولوغاريتماتيها.. إنها مصر التي إن استيقظت ، استفاق العالم العربي بأسره وإن أصابها العجز أو الوهن ، تداعى الجسد العربي من المحيط إلى الخليج بالسهر والحمى.. فكيف لا نغرق والحالة كذه ، في بحر حساباتنا وتحسّبانتا.. كيف لا نغرف من بحر التوقعات والتكهنات.

حتى الآن ، تذهب القراءات للزلزال المصري في شتى الاتجاهات.. الغرب ، وبالأخص واشنطن ، يريد أن يلوّن ثورة مصر ، وأن يرى فيها ثورة برتقالية أو مخملية ، تعيد تجديد شباب الغرب ونظامه السياسي والاقتصادي ، وتعطي دفعا جديدا لـ"الرجل الأخير" و"نهاية التاريخ".. طهران رأت في مجريات ميدان التحرير امتدادا واستمرارا لثورة الكيست الإسلامية بقيادة آية الله العظمى الخميني.. عزت إبراهيم الدوري رأى فيها انتصاراً للمقاومة في العراق وفلسطين.. حسن نصرالله وحزب الله نظرا إليها كامتداد لنصر تموز .6002. حماس رأت فيها انتصاراً للمقاومة ونهاية للحصار الجائر المضروب على "قطاعها".. الكل رأى في الثورة المصرية الراهنة ما يريد هو أن يراه فيها.. الجميع حدّق في مرآتها فنظر إلى صورته هو بالذات ، وليس إلى صورتها.

بعض العرب هبّوا هبة رجل واحد لانقاذ عرّاب الاعتدال ورأسه وقيادته.. هدّدوا وتوعودا.. إن قطعتم المساعدة عن نظام مبارك سنمده بأكبر منها.. لا يجوز إهانة مبارك.. زيارات نشطة ومكالمات ساخنة ، عادت إلى الأذهان "الرباعية العربية" في ذروة تألقها قبل أن تصبح نسياً منسيا.. لم يتراجع هذا الحماس ولم تتراخ تلك الحميّة حتى بعد أن تأكد للقائمين به ، أن بينيامين نتنياهو يفعل شيئاً مماثلاً ، ويسعى وراء الغرض ذاته: إنقاذ مبارك ، رأساً ونظاما.. لم تكل لهم همة أو عزم ، حتى بعد أن قال بينيامين بن أليعازر (فؤاد) أنه كان من بين أقل من عشرة أشخاص ، تهاتف مع الرئيس المخلوع وهو في ربع الساعة الأخير من رئاسته المكلفة والثقيلة للتضامن والاطمئنان على "الذخر الاستراتيجي" و"الصديق الصدوق".

في المقابل ، يتحضر عرب الممانعة لاستقبال وافد جديد.. لقد سارعوا لفتح باب العضوية في هذا النادي على عجل.. فالزائر أو العضو المنتظر ، ليس أي زائر ، وليس أي عضو.. إنها مصر بكل ثقلها وهيبتها وتاريخها ، وقد تخلصت من قيود مبارك وفساده وأغلاله.

لكن مصر لم تكن ملتفتة إلى كل هذا الصخب ، لم يصغ الشباب في ميدان التحرير وكل ميادين مصر وساحاتها هي ميدان تحرير ، لم يصغ الشباب لتصريحات السيدة ميركل وهي تحثهم على حفظ سلام مصر مع إسرائيل ، ولا لهتافات نصف الشارع البيروتي من فريق 8 آذار والداعية لتمزيق اتفاقية الذل ومعاهدة العار.. مصر كانت منشغلة بقضية أخرى ، والمصريون كانوا منهمكين في صنع نصرهم الخاص ، الذي يحمل تواقيعهم ونكهتهم ومذاقهم.

المصريون يريدون نظاماً حراً ، سيداً ، ديمقراطياً ، عادلا وتعدديا.. المصريون يريدون الالتحاق بـ"سمة العصر" التي تخلفوا عنها عقود عديدة.. بعد ذلك ، ليأتي من يأتي إلى السلطة ، طالما أنه سيأتي عن طريق صناديق الاقتراع.. وليُتخذ ما يتخذ من سياسات ومواقف ، طالما أنها ستعبر عن إجماع الشعب أو وجهة الغالبية العظمى من أبنائه وبناته.. ولتتخندق مصر في أي معسكر أو محور تشاء ، طالما أن الأمر برمته سيكون قرار حكومتها المنتخبة ، الحر والطوعي.

لن نعرف الآن أو فوراً ، كيف ستبدو صورة مصر الجديدة ، مصر ما بعد حسني مبارك ، ومن السابق لأوانه وضعها في خانة معينة ، ومصر على المدى المباشر ليست بالضرورة هي ذاتها على المدى المتوسط أو البعيد ، مصر دخلت دائرة الحركة والحراك ، التغيير والتطور ، وإطلاق الأحكام السهلة أو إسقاط المواقف الرغائبية ، أمران ينطويان على قدر كبير من النزق والتسرع وقلة "المهنية".

على أننا نعرف بكل تأكيد ، أن مصر الكبيرة ، لم يعد يتسع لها معسكر الاعتدال ، بمواقفه الخانعة وبجنوح كياناته ومكوناته للاصطدام مع تطلعات شعبه وثورته ، بل واستعداد بعضها لبذل الغالي والنفيس لإرضاء مبارك وإبقائه.. كما أن مصر الكبيرة ، باتت أكبر من أن تُزج في معسكر المقاومة والممانعة "الضيق على مقاسها ذي الحجم الكبير" ، مصر على الأرجح ستشق طريقاً فريداً ، ستشق طريقها الخاص الذي سيجمع بين "الممانعة" و"الديمقراطية" ، بين دعم المقاومة والانفتاح على الحداثة وحقوق الإنسان ، بين الصمود والثبات على جمر المواقف والمبادئ من جهة والاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع العالم والمجتمع الدولي من جهة ثانية.. مصر على الأرجح ، ستقدم لنا نموذجاً تركياً متطوراً ، نموذجاً لدولة سيدة مستقلة ، تحترم إرادة شعبها ومشاعره ، تصادق العالم ولا تنصاع كذيل ذليل لقطب من أقطابه ، أياً كان ، ومهما بلغت مقدراته وقدراته.. مصر على الأرجح ستكون قطباً مجسراً بين قطبين في السياسة العربية ، لا بانتهازية رخيصة ، ولا من قبيل الرقص على كل الحبال ، بل لأنها اعتادت حتى وهي في أرذل عمر وأرذل نظام ، أن تكون القائدة فينا ، فما بالكم حين تكون السبّاقة على طريق الحرية والديمقراطية والكرامة والسيادة.

الدستور