مسز روبنسون

مسز روبنسون

 

بالأمس جاءت مسز روبنسون. رنت كالعادة جرس الباب؛ فنظرتُ في العين السحرية، ولما رأيتها حاملة برضوخ أدوات التنظيف شعرت بالأمان. ففتحت لها الباب، ودخلت. ولكنها حالما دخلت دفعت كفها في صدري وأبعدتني جانباً ناحية باب الحمام. وحينما حاولت أن أقول لها شيئاً اعتقدته مهماً، رفعت سبابتها إلى فمها محذرة مع صوت مليء بصرير حرف الصاد، وقالت محذرة بصرامة:

  •  - إنني أعرف كل شيء.

وكانت المساحة التي تركتها لي، بنبرتها الحادة، ضيقة جداً، وتعني على وجه التحديد: اخرس! ولم أعرف لِـمَ عليّ أن أخرس. ولكنني أيقنت أن عليَّ أن أتعالج من من عناد ما، سبقني إليه الزوار الطارئون إلى القمة العربية في نواكشوط..

وحينما مرّ اسم نواكشوط بخاطري، كانت مسز روبنسون قد أمسكت بالمقشة، فهزت عصاها في وجهي، وقالت ساخطة:

  •  - أتعرف لِماذا لم يحضروا قمة نواكشوط.!؟

ومثْل أردني بسيط عل وشك التقاعد، ويرتعب أمام ضابط أمن وقائي، غير معرّض للمساءلة القضائية ويعتقد أنه القوة والدولة والوطنية معاً، ارتجفت أمام مسز روبنسون، وتخليت عن أمنيتي في أن أوضّح لها أنها وحسب مسز روبنسون من الستينيات التائهة بعد الحرب العالمية الثانية وليست مسز تاتشر العدائية، قائدة الجبهة الأوروبية في الحرب الباردة.

وباختصار، لم يكن لدي جواب على سؤالها حول قمة نواكشوط. ولم تكن نواكشوط أولوية عندي. لأنها لا تدخل في العواصم القائدة التي وردت بكتب التاريخ التي درستها. بينما لم أكتسب لليوم مهارة أن أتخلّى عن الإيمان بما قاله التاريخ مراراً، لصالح تصديق ما قالته الفضائيات، بين فواصل الدعايات التجارية، في يوم غائم غير مستقر. ناهيك عن أن مسز روبنسون عاجلتني بقولها:

  •  - غاب المتفقون عن نواكشوط كي لا يختلفوا.

على اليمن والعراق وسورية. أما الاتفاق على فلسطين فغير وارد، لأن "الواقعية" التي حتمت عدم حضور قمة نواكشوط مشغولة بمراجعة الفواتير، وتحرجني بضررورة مواجهة الحماقات الايرانية، في وقت ليس هناك ضرورة تسبق مواجهة "إسرائيل"..

كان هذا معنى مكة التي تتلمس روحها، وكان ذلك سر بلاء بغداد، ومغزى القاهرة، وقدر دمشق. وما بين المعنى والسر والمغزى والقدر، هناك تفكير دخيل لا يقرأ الورق، وعلى الـ"نت" لا يتصفح الكلمات، ويؤمن جداً بسطوة موضة "النصف كم" و"البنطلون الساحل"..

التاريخ أقوى من الصحيفة، حتى لو صدرت يومياً لمدة ألف عام.

وهذا يوضح ضغوط الواقع التي واجهها، منذ مطلع الثمانينيات، صدام حسين، وقاومها وحاول أن يجد لها بديلاً، وأن يستنجد بحيلة عليها، وقتلته في النهاية، بضربة رجل واحد، ضغائن عربية وإيرانية وأميركية متساوية، اجتمعت عليه معاً، واختلفت من بعده على كرمها تجاه بعضها البعض قبل قتله!

وهذه حقيقة يعرفونوها ويدرسونها اليوم في "نوفو أغوريوفو".

أما أنا الولد، فأحاول أن أكون تلميذاً مهذباً يشاهد نشرة الأخبار، ليفسح المجال لـ"المسز روبنسون" أن تنظّف البيت دون أن تشعر بوجوده. ولكن مسز روبنسون تنتبه لي، بيقظة مواطني الأراضي المنخفضة إلى لون أبناء المستعمرات القديمة، فهبت في وجهي وهتفت بسخط:

  •  - هل أنت أحمق؟!

لم أشأ، خلافاً لأبناء المستعمرات القديمة، أن أُغضب مسز روبنسون، فقلت إنني لست كذلك (مع أني لم أكن واثقاً تماماً من أقوالي)، وأنصتّ يملؤني الخوف من أن تثبت العكس. ولكنها فاجأتني برأي سياسي كنت سأوافقها عليه..

قالت شاهرة ساعديها اللذين ذاب عليهما منفوش مسحوق الجلي:

  •  - نجحت الخطة. تم حصر المنافسة بين ترامب وكلينتون. ثم "شيطنة" ترامب، و"أمركة" هيلاري. ولكن يبدو أن "أمركة" هيلاري لم تنقذها تماماً، بينما "شيطنة" ترامب لا تؤذيه. إنها تأتي بأصوات اضافية له!

وأنا هنا لست ناخباً ولا مرشحاً، ولا يتيماً تبنتني مسز روبنسون ويعيش على رضاها؛ لذا أترك لكم التصويت في المسألة الأميركية الثانوية التي لا تغير شيئاً من النكتة الرائعة؛ وأذكرُ بأن الأمر تم حسمه مسبقاً (ضمن قواعد تنافسية)، وأن لا أحد من المتنافسين يمد غضبه إلى المكان والحيثيات التي تم فيها الحسم النسبي بينهما، بما في ذلك المستبعد مبدئياً الذي لا تعوزه الصراحة والوقاحة!

ربما لدى الطرفين، أو أحدهما، ثمة أوراق أخرى، نافعة..

شخصياً، سأشتري تذكرتي السنوية وأسافر، ثم أزور مقبرة تعنيني. وبعدها سأمشي في شوارع اعتدت المشي فيها. ومن بعد سأبحث على "النت" عن أغنية "مسز روبنسون" من الستينيات الهيبية الأميركية. سأسمعها، وأعتذر من سيدتها على إقحامها في هذا المقال الفج.

 

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك