مراحيض الغضب

مراحيض الغضب

 

يلهو معظمنا في الجدال حول الأحداث السياسية الطافية على السطح، ونتغافل عن رصد مؤثرات اجتماعية متوارية؛ ومنها المرحاض أحد أبرز التعبيرات البشرية التي تؤشر على أبعاد تنموية اقتصادية تتعلق بتطورنا المادي، وأخرى ثقافية تدل على موقعنا بين باقي الثقافات.

 

قد يستغرب البعض حين يعلم أن دورات المياه تمثّل مشكلة عالمية، بالنظر إلى افتقار 2.5 مليار شخصٍ إليها، في دول تنتمي إلى العالم الثالث تحديداً، وأن أعداداً أكبر تفتقد إلى أنظمة صرفٍ صحي، مما حدا الأمم المتحدة إلى تخصيص يومٍ للمرافق الصحية، لإنقاذ ملايين الأطفال من أمراض مصدرها انعدام النظافة، ولوقف التلوث البيئي.

 

تبدو المسألة مركبةً في وطننا العربي، الذي يجد غالبية أبنائه حمّامات في بيوتهم (باستثناء مناطق عديدة في السودان ومصر)، لكن مدنهم -وحتى النفطية منها- تغرق في كل شتاء لعدم تمديد شبكة للمجاري، أو تراجع البنية التحتية لما تأسس منها في القرن الماضي، مع ضرروة التذكير باعتمادنا المتزايد على صهاريج النضح لتصريف فضلاتنا، حيث تصل الروائح الكريهة لساكنين في عمارات وأبراج شاهقة!

 

يصبح تفسير الظاهرة أعقد عندما نعود إلى مراجع وشواهد حيّة توثق وجود أمكنةٍ لقضاء الحاجة داخل بيوتنا منذ أكثر من 3000 عامٍ، في بلاد الشام والعراق واليونان، حيث استخدمت المقاعد أو الكراسي المثبتة فوق حفرة (تشبه التصميم الأوروبي الحالي الذي ظهر منذ 250 سنة تقريباً)، وهو ما بدا غريباً على العرب القادمين من الجزيرة حين أتوا المنطقة، وقد احتاج هذا التطور في العمارة إلى إيجاد نظام صرف صحي ابتدأ العمل به في تدمر والرصافة والرها (حمص) والبتراء، ولا يزال بعض آثاره قائماً إلى اليوم.

 

ونشأ لاحقاً الحمّام باستعاراته الفارسية (للاستحمام)، على نحو منفصلٍ عن المرحاض، واحتضنت الحواضر العربية حمّامات واسعة جداً داخل قصور الحكّام والولاة، واحتوت عدداً من الأحواض تتوزع بها مياه ساخنة أو باردة، ومصطبات للاسترخاء والتدليك، ما يتطلب خدمة الغلمان والجواري للاعتناء بنظافة أصحاب القصر وتدليكهم.

 

وضمّت بيوت العامة، بطبيعة الحال، غرفة صغيرة للاستحمام، مع اعتمادها بشكل كبير على الحمّامات العامة التي خصصت أوقاتاً للنساء وأخرى للرجال، وكانت تطول زيارتهم إليها في أيام العطل، فيقضون نهارهم كاملاً، ويحضرون معهم الطعام والشراب والنارجيلة ويتبادلون الأحاديث والحوارات باعتباره فضاءً عاماً ومكاناً للترفيه في آن، كما اعتاد على ذلك أهل نابلس وبيروت والشام وحلب وبغداد وغيرها..

 

ولتكتمل المفارقة تكفينا نظرة واحدة إلى أحزمة الإفقار والتجويع، التي تلّف جميع مدننا الأثرية من المحيط إلى الخليج، لمقارنة الساحات والبوابات والنوافذ، والحمّامات والمراحيض طبعاً، بين ماضٍ ولّى وبين واقع شديد البؤس والوطأة!

 

بالقرب من عجزنا في التنمية، يمكننا تتبع سيرة المرحاض، الذي ظلّ تقليداً متوارثاً عبر الرومان ثم المسلمين إلى فترة متأخرة (غير محددة غالباً)، حتى تم نقله خارج المنزل بعيداً عن غرف النوم والمعيشة المتلاصفة، وهو تغيير ارتبط بطغيان ذهنية "الطهارة"، التي رافقها وساوس عديدة ذات صلة بالديانة اليهودية عموماً.

 

لم يتوقف الأمر عند اختيار مكان جديد لقضاء الحاجة، بل اشترط بناؤه مخالفاً لاتجاه القبلة، وهو جدلٌ يهم أهل الفتوى به إلى هذه اللحظة، وترسخت خرافات تتصل بـ"الطهارة"، ومنها التعامل مع دورة المياه وأدواتها بوصفها "نجسة"، مع أن الدراسات العلمية تثبت أن حجم الجراثيم والأوساخ على جهاز الكمبيوتر أو المكتب هي أضعاف ما هو موجود في مراحيضنا!

 

مع انتقال موضع بيت الخلاء أو "الخارج" تغيّر شكله ليبنى جدارٌ أمام بابه (أشبه بممر لولبي)، وكان الاهتمام واضحاً بتهويته وتنظيفه، واستمر على هذه الحال قروناً عدةّ إلى أن استعرنا –فجأة- النموذج الأوروبي في الربع الأخير من القرن العشرين، الذي يحوي مرحاضاً ومغسلة ومساحة للاستحمام في غرفة واحدٍة، وفي الوقت نفسه أضحى حمّام السوق معلماً فلكلورياً أيضاً.

 

تحولات أصابت مرافقنا الصحية في مرحلة بدأت مجتمعاتنا العربية تعاني ردةّ على جميع الصعد؛ وتغولاً للسلطة على الفضاء العام (الفن والصحافة والأحزاب وغيرها)، وهو ما ولّد احتقانات طوال عقودٍ خلت، وصاحبها سلوكيات غاضبة تجاهلنا دراستها لأسباب عديدة.

 

لم نجد لليوم تفسيراً مقنعاً لأوضاع المراحيض العامة في المدارس والجامعات والأسواق والحدائق والمباني الحكومية، حيث نجدها معطلة أو مكسرة أو متسخة على الدوام، وقد تسرق حنفيات الماء والمرايا منها، ويكتب على جدرانها جميع صنوف الشتائم التي تنال من كل السلطات والمحرمات، يضاف إليها بوح العشاق بحبهم أو كتابات تفضح عشق آخرين، وكل ما يخطر بالبال بعيداً عن أعين الرقابة. ناهيك عن ارتباط الحمام بحوادث التحرش والاعتداءات الجنسية في المدارس، باعتباره أول مساحة تتاح أمام طلابنا لممارسة التدخين وتعاطي الكحول والمخدرات وتبادل أفلام البورنو.

 

إنه ليس مجرد مكانٍ للراحة، ودراسته قد توصلنا إلى قراءة شخصياتنا وعلاقاتنا بالمجتمع والسلطة، وفهْم كل هذا الكبت والتطرف الذي نخبئه في حماماتنا.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك