تعد الأناشيد الجهادية إحدى السمات الثقافية والدعائية الهامة للتنظيمات الجهادية الحديثة، فمن خلالها تتمكن تلك التنظيمات من الترويج لأفكارها وإيديولوجيتها، كما تسهم في استقطاب وتجنيد الفئات المستهدفة، والأناشيد تؤدي وظائف عديدة ثقافية ونفسية واجتماعية وتنظيمية وسياسية، وهذا ما دفع التنظيمات الجهادية – وخصوصا تنظيم داعش- إلى التركيز على الأناشيد كأداة دعائية إيديولوجية وزيادة إنتاجها وترويجها على نطاقات واسعة؛ ومن هنا فإننا سنحاول الكشف عن الوظائف التي تؤديها الأناشيد الجهادية لدى تنظيمي القاعدة وداعش، ومستويات تأثيرها في المستهدفين، كما ستركز المقالة على الأناشيد الداعشية باعتبارها الأنموذج المتطور لمفهوم النشيد الجهادي.
لقد وجدت المنظمات الدينية باستمرار أن الموسيقى أداة مناسبة لتأكيد السيطرة على التجمعات ولإلهام حماسة العنف الديني، حتى في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية وليس القتال فقط. في القرن العشرين استخدمت حركات التضامن الوطني الموسيقى لتأجيج المشاعر العامة والتلاعب بها، كما عملت الموسيقى وبإصرار على إقناع السكان بشرعية الأنظمة الفاشية أو الشيوعية [1].
ارتبط مفهوم النشيد الإسلامي بحركات الإسلام السياسي، خصوصا جماعة الإخوان المسلمين ومن بعدها التيارات الجهادية منذ سبعينيات القرن الماضي، وحصلت تطورات في النشيد لدى التنظيمات الجهادية بشكل كبير سواء في مضامينه أو أساليبه أو محسناته أو تقنياته، وأصبح من أدوات الدعاية والتأثير والاستقطاب ذات الفاعلية، كما انقسم لاحقا إلى صنفين: الأناشيد الدينية ذات المضامين المختلفة التي تتناول الوعظ والحث على الالتزام بتعاليم الدين، والأناشيد الجهادية التي تشكلت لها ملامح خاصة سواء بالشكل أو بالمضمون أو بالوظيفة، وهي التي ستتناولها هذه المقالة.
جاء تطور هذا المفهوم في سياق تطور "الفن عند الحركات الإسلامية". ينبع ذلك من ضراوة المعركة السياسية من جهة والتباين أو العداوة بين تياراتها المختلفة، والحضور الثانوي الهامشي للفن – بكل تعريفاته وتجلياته- في التركيبة النفسية والاجتماعية للتيارات الإسلامية المختلفة، مع ظهور انشقاق التيارات الجهادية كانت الحاجة إلى منتج فني يعبر عن الأيديولوجيا الأكثر جذرية، لذلك كان منتجهم أكثر أصالة حقيقة، بكلمات معظمها من التراث الشعري القديم، بلا دفوف أو آلات مصاحبة. [2]
إن حركات الإسلام السياسي، سواء كانت إصلاحية أو راديكالية أو سلفية متعصبة أو علمية، أو حركات صوفية، عملت على إعادة إنتاج المواقف نفسها من الفن ومن الموسيقى ومن الأغنية- لكن تحت ضغط المجتمع والتحولات العالمية في شتى الحقول بما فيها الديني، ولأن الفن هو أحد المكونات الأصيلة في النفس البشرية- ستضطر هذه الحركات إلى تبني شكل جديد من الفن وتحديدًا الموسيقى، تحت اسم "النشيد الإسلامي"، الذي بدأ باستلهام الترانيم الدينية النضالية التي تتغنى بالشهادة وبالجنة وبالجهاد وبالتضحية وبالمعاناة، أو ما يمكن تسميته بـ"أدب المحن" [3].
لقد دار نقاش طويل حول مسائل الأناشيد والموسيقى منذ أن بدأ الصراع ما بين الإخوان المسلمين والأنظمة السياسية في مصر وسوريا، سمح هذا النقاش بتجاوز مسألة التحريم، والتساهل في استخدام النشيد الديني يرافقه بعض الآلات الخفيفة، واستمر هذا النقاش مع بروز التنظيمات الجهادية الحديثة والتي تناولت المسألة بطريقة براغماتية؛ وظفت من خلالها الأناشيد وطورتها لتخدم أهدافها السياسية والدينية.
مُقتضى تلك البراغماتية إزاء النشيد الديني، يتأتّى من وضعية الصراع الذي تجد "الجهادية" به نفسها في مواجهة المؤسسات من "قوى الشر"، ابتداءً بالنظام الحاكم وانتهاءً بالنظام العالمي؛ الأمر الذي استدعى منها الأخذ بكل أسباب القوة المتاحة [4]. والتنظيم البراجماتي الذي يستخدم آليات واختراعات غربية لتحقيق أهدافه؛ يذكّرنا بأن الغاية تُبرر الوسيلة، حتى وإن كانت تلك الوسيلة لا تتسق مع مبادئه، فمن المهم جدًا تحليل القوى الناعمة - بما فيها الأناشيد - للفواعل السياسية؛ فهي تساعدنا على فهم كيف تتحرك تلك الفواعل، وما الأفكار التي تهدف إلى نشرها في المجتمعات المُختلفة [5].
منذ ذلك الحين صار نشيد "الإسلام الحركي" ينفكّ شيئاً فشيئاً عن سابقه، متجهاً إلى الأغنية القصيرة، ومساوماً على جودة الأداء ومن ثمّ اللحن، ومركّزاً على مضمون كلامي غاضب حزين، من ندب أحوال المسلمين، ووصف عذابات السجون، والدعوة لثورة محفوفة بالموت الشجاع والتضحيات الجسام على "الجاهليّة الجديدة"، وعلى هذا كانت الموجة الأولى من الأناشيد الإسلامية المعاصرة، قبل أن تهبّ الموجة الثانية مع مرحلة أكثر قمعاً ودموية وردّات فعل، وتنظيمات مقاتلة أكثر تشدّداً وعنفاً، مثل القاعدة وتنظيم داعش، حيث حافظ النشيد على تدهور مستواه الفنّي، فيما تبدّدت الرومانسية السوداء وتمدّد محلّها العنف والقتال وصليل الصوارم [6] .
انطلاقا من ذلك التحليل، يمكن فهم حقيقة أن "القاعدة" لم يكن لها منتجها الفني الخاص بها، فهي - بنيويا- ليست جماعة أو طائفة، إنما هي ردة فعل على سياق أكبر، وأن كل الأناشيد التي خرجت في رثاء أسامة بن لادن، لم تخرج من منظمين قاعديًا، بل خرجت من متعاطفين مع رمزية التنظيم وأيقنة بن لادن نفسه.
إن اللون الموسيقى المسموح به في مختلف الجماعات الجهادية العالمية؛ يحدده طبيعة أهداف التوظيف الاستراتيجية والخلفيات الثقافية للأعضاء المستهدفين من التجنيد [7].
ولما ترسمت حدود داعش وصارت لها قوانينها وأعرافها، صار لها منتجها الفني، فالغزارة في الحصيلة الإنتاجية الداعشية تجاوزت كل التراث الإخواني والسلفي، لتقدم أناشيد جهادية وطريفة، عامية وفصحى؛ باختصار هي منتج الحياة اليومية للفصيل "المتدوّل"، ليتخطى مجرد الحماسة القتالية إلى الاحتفاء باسم الخليفة الأول، ولأن الدعوة –والطموح- الداعشي عالمي، فهناك أناشيد تمت ترجمتها إلى لغات أخرى [8].
___________________________________
الهوامش:-
1. Jonathan, Pieslak.(2016). Radicalism & Music: An Introduction to the Music Cultures of al-Qa ida. Popmatters, See link:https://www.popmatters.com/radicalism-and-music-an-introduction-to-the-…
2. موقع التحرير نيوز.(2016). الأناشيد الجهادية ورحلة البحث عن المعنى. مقالة منشورة على 3 أجزاء على موقع التحرير نيوز بتاريخ 5 أيار 2016، استرجعت بتاريخ 4 أيار 2019 من الرابط:http://www.tahrirnews.com/Story/418263/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%A7%D…
3. جرموني، رشيد (2018). الاقتصاد الموسيقي.. الأغنية الدينية أنموذجًا .. نحو إعادة تعريف التدين في المجتمعات العربية المعاصرة، مجلة الفيصل الالكترونية، مقالة منشورة بتاريخ 1 يوليو 2018، استرجعت بتاريخ 24 أيار 2019 من الرابط: https://www.alfaisalmag.com/?p=11145
4. موره لي، علي.(2019). إضاءة على الموسيقى الداعشية. مقالة نشرت على موقع العربي نشرت بتاريخ 14 ابريل 2019، استرجعت بتاريخ 5 أيار 2019 من الرابط:https://www.alaraby.co.uk/entertainment/2019/4/14/%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D8…
5. نادر، روبير.(2016). الأدب الداعشي: كيف يوظفه التنظيم، موقع إضاءات الالكتروني، مقالة نشرت بتاريخ 6 تموز 2016، استرجعت بتاريخ 19 أيار 2019 من الرابط:https://www.ida2at.com/aldaashi-literature-how-organizational-needs/
6. صبيح، خالد (2017). التعبير المنغّم في الإسلام عرض تاريخي موجز، مجلة معازف، نشرت في 11 نيسان 2017، استرجعت بتاريخ 23 أيار 2019 من الرابط :https://ma3azef.com/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D…
7. Jonathan, Pieslak.(2016)، مرجع سابق
8. جرموني،2018 ، مرجع سابق.