سؤال يزداد إلحاحاً على الأردنيين مع كل صباح، وهم يقرؤون أخباراً مرعبة عن جرائم وأحداث عنف اجتماعي، يقف وراءها مزاج متشنّج مأزوم.
في معان، شاب يقتل والدته وشقيقته، ونكتشف لاحقاً أنّ والده في السجن لقتله شقيقي زوجته المغدورة، وامرأة في السلط تقتل طفلتيها وتجرح الثالثة! فيما أب يقتل ابنه وهو يحاول أن يؤدّبه!
هذه الجرائم تخلع القلوب من مكانها، وتعكس تهشّماً كبيراً أصاب القيم الاجتماعية، وهي ليست حالات نادرة أو استثنائية، بل ثمة نماذج أخرى متعددة على أنماط مختلفة من الجرائم، لكنّ هذا النمط مقلق أكثر لنا، لأنّه يناقض الفطرة الإنسانية الطبيعية، ويتطلب دراسة معمّقة.
المفارقة أنّ تكرار مثل هذه الجرائم تزامن مع عودة مشهد العنف الاجتماعي في مناطق بإربد والزرقاء، بعد أن تراجعت هذه الظاهرة، وكاد البعض يتصوّر أنّها صفحة طُويت، في سياق استنفار أمني واضح، تخللته تصفية لبؤر التمرد والخروج على القانون، وملاحقة لعدد كبير من المجرمين المحترفين، ما أدّى إلى إصابات حتى داخل قوات الأمن نفسها.
"استعادة هيبة الدولة" مثّلت عنواناً رئيساً في مواجهة الخارجين على القانون، لكنّها لا تكفي لمعالجة ظاهرة العنف الاجتماعي بصورة عامة، إذ الظاهرة تتعدى الشق الأمني ولها شروطها الموضوعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
في المقابل، لم تخرج اللجنة الوزارية، التي شكّلت لهذه الغاية، برؤية عميقة للأسباب واستراتيجية المواجهة، بقدر ما كان هنالك تعمّد واضح لإبراز تحميل المسؤولية للإعلام.
"وضع الكرة في ملعب الإعلام" بمثابة تكرار لخطاب مبتذل صاحب إنكار المسؤولين منذ البداية وجود الظاهرة، والإدعاء أنّ الإعلام يبالغ في تضخيمها، وبقي التستر حتى انفجرت أحداث العنف بصورة كبيرة، قبل أشهر، ما خلق حالة من القلق من أبعادها وتداعياتها.
المجلس الاقتصادي الاجتماعي، بدوره، عقد ندوات وجلسات متعددة، ومن المتوقع أن يقدّم تقريره وخلاصاته الجريئة قريباً لرئيس الوزراء، ويتضمن تحليلاً مركّباً وعميقاً لظاهرة العنف وشروطها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويدعو إلى الاعتراف بالتحديات ومواجهتها.
تلك الخلاصلات تتقاطع تماماً مع تقرير مهم جداً قدّمته، قبل شهر ونصف، لجنة من الخبراء والأكاديميين، برئاسة الأكاديمي المعروف د. موسى شتيوي، شكّلها وزير التعليم العالي، وكلّفها بدراسة العنف والتنسيب للجنة الوزارية بالنتائج، ولا نعرف الآن أين تقرير اللجنة، ولم تعلن نتائجه وتوصياته التي بقيت طي الكتمان!
هذه الأحداث والخط البياني لها المتصاعد (إذ تشير إحصائيات إلى أنّ شهر آب الماضي وحده شهد قرابة مائتي مشاجرة جماعية!)، والأهم أنها تكشف عن مدى هشاشة "المناعة الاجتماعية" تجاه التحولات الاقتصادية البنيوية، التي تؤدي إلى جروح وأضرار كبيرة لدى الطبقات المسحوقة وفي البنية الثقافية، وتستدعي تصوراً موازياً لدور المجتمع الأهلي والمؤسسات التي تعنى بالأسرة والأفراد، ومن الإعلام، ومؤسسات حماية الأطفال، وكلّها مؤسسات تحتاج إلى قفزات نوعية كبيرة في طبيعة عملها وإدراكها لمهماتها.
ثمة مسؤولية مهمة تقع على عاتق الدولة؛ في التأكيد على مبدأ المواطنة وسيادة القانون وتطوير الأجهزة الأمنية في التعامل مع الاحتقانات والنزاعات الاجتماعية، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وحماية الطبقة الوسطى.
الحوارات الواسعة التي جرت أنتجت قراءة معمّقة للظاهرة وتوصيات على طاولة الرئيس والمسؤولين.
الغد