ليس بالأسبرين وحده تعالج الأزمات

ليس بالأسبرين وحده تعالج الأزمات
الرابط المختصر

أقدمت الحكومة خلال الأسبوعين الأخيرين على اتخاذ سلسلة من "الخطوات الصغيرة" بهدف احتواء حراك الشارع والنخب على حد سواء ، وقطع الطريق على أية سيناريوهات متشائمة واخشى أن يعتاد الرأي العام الأردني على انتظار المزيد من هذه "الخطوات الصغيرة" عشية كل يوم جمعة ، تسبق الاستعداد لتسيير تظاهرات ومسيرات وما بعد الصلاة ، وتسعى في احتوائها أو تنفيسها ، ذلك أن قدرة الحكومة على اتخاذ المزيد من هذه "الخطوات" ، ستظل محدودة ، على تواضع هذه الخطوات وضآلتها.

والمؤسف أن "الحوار الوطني" الذي ظل مطلباً مطروحاً على جدول أعمال الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ، قد تحوّل بدوره إلى "شحنة غذائية عاجلة" ، تطلبها الحكومة على استعجال ، وتتردد الأحزاب والنقابات في قبولها للمرة الثانية على التوالي.

في ظني أن مثل هذه المعالجات "الترقيعية" ما عادت تجدي نفعاً ، وأحسب كما كثير من الأردنيين ، أنها جاءت متأخرة ، وإنها اتخذت "منحى وقائياً واستباقياً" ، لم تنبع من قناعات عميقة ورؤية برنامجية ، ولم تأت في سياق مشروع متكامل ، بعيد المدى ، لمعالجة الاحتقانات والاحتباسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، والأهم من ذلك كله ، أن الرأي العام ليس متأكداً تماماً بأنها "ليست ظرفية" و"غير قابلة للانتكاس والتراجع".

فالمواطن الأردني ، يسمع هذه الأيام ، لغة لم يألفها منذ زمن ، ملؤها الحرص على قوته ورفاهه ، لغة لم تعد محمّلة بهواجس "عجز الموازنة" و"شد الأحزمة" و"القرارات غير الشعبية" و"الإجراءات التقشفية" ، ما نسمعه ليس سوى لغة التخفيضات في الأسعار والرقابة على الأسواق ووقف الضرائب الجديدة وزيادة الرواتب ، ولو أن هذه العناوين أدرجت في برنامج لحزب سياسي معارض ، قبل شهر من الآن ، لقيل أنه حزب "ماضوي" و"مثقل بالإيديولوجيا" ، وغير مدرك لما يتحدث به ، ولا يعي ما نمر به ونعاني منه ، ولكان مثاراً للنقد الجارح والسخرية...هذه الأيام ، لا أحد يحدثك عن كلفة "هذه الإجراءات" وأثرها على الميزانية والعجز والمديونية ، كل شيء جائز ، طالما أن الأهم هو قطع الطريق على السيناريوهات المتشائمة.

نحن في الحقيقة لا ننكر على الحكومة حقها في اتخاذ خطوات وقائية ، احترازية واستباقية ، بل ونعتبر ذلك واجب كل حكومة بالتعريف ، فالحكومة الذكية هي التي تحول دون انزلاق البلاد والعباد إلى أسوأ السيناريوهات ، لا تلك التي تكتفي بمعالجة الكارثة بعد وقوعها ، هذا إن كان لها أن تعالج وضعا مترديا كهذا...لكننا في المقابل ، نلفت نظر الحكومة ، ، إلى تفاقم الحاجة لمعالجات تتعدى "حبّات الأسبرين" و"الحقن المهدئة" ، خطوات تتجاوز عقلية "المياومة" و"نظام العمل بالقطعة" ، نحن بحاجة لبرنامج إنقاذ وطني ، يعيد تعريف الأولويات الوطنية ، ويطلق عملية إصلاح سياسية متزامنة ومتوازية مع عملية الاستنهاض الاقتصادي.

نريد أن نصغي لمطالب الناس بإجراء انتخابات مبكرة وفقا لقانون جديد للانتخاب ، فتجربة تعامل البرلمان مع الحكومة والأحداث والتطورات ، تملي الحاجة لتغيير جذري في الساسة والمقاربة ، والمطلوب إجراء هذه الانتخابات في ظل حكومة إنقاذ وطني انتقالية ، تحظى بثقة الناس ويرون فيها صوتهم ولسان حالهم ، ومطلوب أن يعاد النظر في طريقة تشكيل الحكومات ، بحيث نكون أمام حكومات منتخبة ، تتحمل وحدها وزر أعمالها وسياساتها وخطواتها ، وتتبدد حالة الاحتقان وننتهي من حالة الفراغ السياسي وخواء النخب ، ونطلق ديناميكيات أهلية ومدنية ، تضع حداً لتفاقم الهويات والولاءات الفرعية والعنف المجتمعي والعشائرية المتضخمة ، وتؤسس لمجتمع مدني فاعل ، وصحافة حرة وإعلام مستقل وبرلمان ممثل وموثوق ، وحكومات ذات أكتاف عريضة قادرة على حمل الأعباء وصد الأنواء.

قبل أن يحل آخر الشهر ، سيكون مفعول مختلف "الإجراءات والخطوات" التي اتخذتها الحكومة خلال الأسبوعين قد تبددت ، فالعشرين ديناراً لا تكفي لزيادة صحن فول واحد على مائدة الموظف أو العامل او المتقاعد ، ناهيك أن مئات ألوف المواطنين ، غير المشمولين برحمة الزيادة الحكومية ، ففقراء القطاع الخاص من صغار الكسبة والعاملين بأجر وعمال المياومة والموظفين الصغار في المنشآت غير الحكومية ، لا بواكي لهم ، ولا يبدو أن احداً من الجالسين على مائدة مجلس الوزراء طرح سؤالا: ماذا بشأن هؤلاء ، ماذا عن المفقرين والجياع من غير الموظفين المدنيين والعسكريين؟.

قبل أن يحلّ آخر الشهر ، سنكون على موعد متكرر مع نشاطات شعبية أخرى ، فماذا نحن فاعلون لتهدئتها واحتوائها ، لندع هؤلاء يعبرون عن أنفسهم بأحزابهم ونوابهم وكتلهم وحكوماتهم المنبثقة عن أغلبيتهم البرلمانية ، ولنرى صراعاً للبرامج والرؤى ، وليكن الشعب هو الفيصل والحكم ، بدل أن يكون الخصم المُحمّل بعناصر "التهديد".

لنفتح الأبواب للمشاركة ، المشاركة الحقيقية لا الصورية ، لتعبيد طريق الرقابة الأهلية والبرلمانية والصحفية على أداء الحكومة والنواب ، لنعزز السلطات ونحكم فصلها واستقلاليتها ، ونعزز دور كل سلطة من دون مصادرة أو تغوّل أو افتئات ، لنخطو بثبات وجرأة ، على ذات الطريق الذي لم تسر عليه دولة واحدة في العالم ، ولم تصل إلى بر الأمان ، وإن بعد حين ، وإن بعد مخاض عسير. بيدنا أن نجعل هذا "الحين" قريبا...بيدنا أن نجعل هذا المخاض يسيرا.

الدستور

أضف تعليقك