لمصلحة من يتعمق التأزيم في الأردن؟

لمصلحة من يتعمق التأزيم في الأردن؟
الرابط المختصر

الأجواء المشحونة وتصاعد الاحتقان لم يعودوا يخفيان على أحد كلما اقتربنا من الانتخابات التشريعية, رغم محاولات رسم صورة أكثر إشراقا بالتواطؤ مع إعلام مرعوب ومنبطح. هذه المعادلة المقلقة تذكّر بإرهاصات أزمات مفصلية هزّت استقرار الدولة سابقا.

الحكومة المحافظة سياسيا والمنفتحة اقتصاديا تصر على أنها لا تستهدف "كسب الشعبية" وإنما معالجة أزمات الوطن المتراكمة عبر اتخاذ قرارات صعبة ضمن برنامج تنفيذي واضح الأهداف مدعوم ملكيا بدلا من ترحيلها أو الطبطبة عليها بخلاف سياسات غالبية الحكومات السابقة.

لكن هذه وقفات نموذجية ونبيلة قد لا تتفق مع حقائق عالم السياسة على الأرض.

كما أن من حق أي رئيس حكومة الطموح للبقاء في الدوار الرابع لأطول فترة ممكنة وتعديل فريقه الوزاري كلما شعر بثغرات قد تضعف أداء الفريق أو تعيق تنفيذ السياسات. لذا لجأ رئيس الوزراء سمير الرفاعي إلى إخراج من باتوا يوصمون ب¯"وزراء التأزيم" (العدل, التربية والتعليم والزراعة) على أمل تبريد الجبهة الداخلية المتوترة على خلفية اتساع رقعة دوائر الاحتجاج المجتمعي ضد قرارات الحكومة.

ها هم المتقاعدون العسكريون يكسرون حاجر الصمت في احتجاج غير مسبوق. تتحرك هذه الشريحة الموالية تقليديا لمقاطعة الانتخابات التشريعية ترشيحا, وتصويتا ومشاركة بسبب تجاهل الحكومة لمطالبها بإصلاحات دستورية, مكافحة الفساد ووقف تجنيس الفلسطينيين.

قبل ذلك تصاعدت احتجاجات المعلمين المطالبين بحقوق وظيفية ونقابية, وتحركات قضاة ضد سلق وإصدار قانون مؤقت لاستقلال القضاء, فضلا عن اعتصامات عمال مياومة قُطِعَت أرزاق بعضهم.

الرئيس ووزراؤه حلفوا اليمين الدستورية: "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا للملك وأن أحافظ على الدستور وأن أخدم الأمة وأقوم بالواجبات الموكولة إلي بأمانة". ولا يتوقع منهم أقل من ذلك ضمن منظومة حقوق الحكومة وواجباتها الدستورية.

لكن وبالتسلسل المنطقي ذاته, فإن الأفعال والأقوال كما السياسات والقرارات تقاس بالنتائج ولا ب¯ "النوايا الحسنة" التي لا تدخل أحدا إلى الجنة; أو بالكلام المنمق الذي يأتي أحيانا حقا يراد به باطلا ضد الفئات المحتجة وكل من يجرؤ على إعلان رأي آخر. وبدلا من تصحيح مسارها باعتبار أن البشر ليسوا معصومين عن الخطأ, تتعامل الحكومة مع الواقع المحتقن بمزيج من سياسات التشدد, الطبطبة, شق الأصوات المخالفة والتقليل من أهمية حراكهم, لوم الآخرين على تحريك الشارع بدعوى تصفية حسابات مع الرئيس شخصيا. كما تقارع الصحافة الالكترونية التي غدت أوسع انتشارا وجرأة من وسائل الإعلام الرسمية (إذاعة وتلفزيون) والصحافة شبه الرسمية والمستقلة المقروءة التي رفعت الراية البيضاء مبكرا, غالبيتها من أجل مصالح شخصية.

وسائل الإعلام التقليدية "مكتومة" بأوامر تجاهل حراك المتقاعدين العسكريين, المعلمين وغيرهم. كما التزمت بعدم انتقاد القانون المؤقت للانتخابات التشريعية. وفي تداخل بين الرسمي والإعلامي, سرت معلومات تفيد بأن طرد رئيس تحرير صحيفة يومية "مستقلة" جاء بناء على طلب حكومي مباشر من الناشر مع أن الحكومة تنفي ذلك. تحقيقات تمنع يوميا من النشر كحال مقالات - حتى تلك التي تنتقد شؤونا قطاعية بعيدة عن السياسة مثل موجبات إصدار قانون العمل المؤقت. رؤساء تحرير وسائل مستقلة يحاسبون يوميا لأنهم وضعوا أخبار حكومية روتينية في الداخل أو لم يرفقوا الخبر بصورة شخصية للمسؤول.

مطالعة سريعة لصفحات غالبية اليوميات تدل على شكل ومحتوى متقارب ل¯ "جاكيت أنيق متشابه". بقيت صامدة في الساحة الإعلامية يومية مستقلة "مستقبلها على كف عفريت" ومواقع إخبارية لا تتعدى أصابع اليد الواحدة تسعى لتغطية الرأي الآخر, تماشيا مع أخلاقيات الإعلام ومهنيته. الحكومة درجت على تصنيف هذه الأصوات ب¯"المعارضة اليسارية" أو ترجع تحركها إلى أوامر صادرة عن شخصيات رسمية تقاعدت بمن فيهم "باشوات" سابقون غايتهم مناكفة شخصية مع الرئيس لتسديد حسابات قديمة/جديدة.

هذه الأجواء تستحضر الحقبة التي عاشها الأردن في مرحلة ما قبل رفع الأحكام العرفية عام .1990 فبدلا من الانفتاح على مختلف القوى وملاقاتها في منتصف الطريق حتى تلتقي الأفعال مع شعارات النزاهة, الشفافية والديمقراطية, تتجاهل الحكومة بؤر التذمر, ما ينذر بموجة تأزيم قد تطلق شرارة عدم استقرار ر لأتفه الأسباب. فلأول مرة تتقاطع احتجاجات قطاعات مجتمعية قريبة من الشارع وقد تتدحرج إلى كرة ثلج.

لنتذكر أن القائمين على هذه التحركات خرجوا من رحم بيروقراطية الدولة الأمنية والمدنية - عماد النظام تقليديا. وهم قادرون على استمالة مشاعر الشارع أكثر من أحزاب المعارضة السياسية التقليدية, ذلك أن أجندتهم تحاكي هموم رجل الشارع الذي يركض خلف تأمين لقمة عيش ووظيفة, وخدمات مقبولة توفرها الدولة. أمام صدود الحكومة, تحولت مطالبهم المجتمعية-المعيشية خلال الأشهر الماضية إلى سياسية بامتياز. فالأرضية جاهزة للتوتر بما فيها تردي الأوضاع المعيشية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وارتداداتها على الاقتصاد الوطني, تراجع دور دولة الرعاية وتغيير صامت يمس هوية الدولة التقليدية. يتزامن ذلك مع انسداد أفق الحل السياسي غربي النهر ما يلقي بأطنان من التحديات على الأردن, بينما يتحاشى المسؤولون مكاشفة الشعب.

سياسات التشدد الرسمي, التي تتم في غياب مراقبة تشريعية, باتت تقلق قطاعات واسعة من النخب - ساسة, مسؤولين سابقين, نشطاء مجتمع مدني وحزبيين لأنها ببساطة تبعد الدولة عن أهداف الرؤية الملكية لتعميق المؤسسية وعصرنة الأردن; دولة المواطنة, سيادة القانون, فصل السلطات وضمان الحريات الإعلامية.

بالطبع رجل الشارع مغيّب بسبب التعتيم الإعلامي على الرأي الآخر في الصحافة التقليدية. صدور مدونة لضبط العلاقة بين الإعلام والحكومة, لم تساهم إلا في قطع الاشتراكات عن الصحافة المناكفة. اليوم دخلت الرقابة المسبقة على خط الصحافة الالكترونية أو "صحافة المستقبل", التي باتت تشكل الرأي العام في غياب إعلام وطن.

بدأت سياسة حجب المواقع عن موظفي الدولة بالتزامن مع إعلان مدونة لسلوك الموظفين. ظاهر القرارين رفع الإنتاجية ووقف هدر المال العام, الذي تقدره الحكومة ب¯ 70 مليون دينار سنويا. لكن باطنه يستهدف وقف تضامن هؤلاء الموظفين مع القطاعات المجتمعية المحتجة عبر إرسال تعليقات للمواقع الالكترونية تحتوي على كم هائل من الانتقادات للحكومة ومؤسساتها ولشخص الرئيس وعدد من الوزراء على وقع تنامي فجوة الثقة بين السلطة والمواطن. المفارقة أن الحجب طال مجلس الملك - الأعيان ورئيسهم ولا موظفي مجلس الأعيان فقط.

ثم الحق القراران بقانون مؤقت لجرائم أنظمة المعلوماتية سيمس بالتأكيد الحريات العامة في بلد يستخدم الانترنت فيه مليونا و800 ألف شخص, أي ثلث عدد السكان- نصفهم يشاركون بمواقع الكترونية جماعية تسمح بالتشبيك وتكوين المواقف مثل "التويتر" و "الفيس بوك".

المطلوب بصراحة من وراء تلك القوانين والأنظمة المتناسلة الانصياع لرغبات الحكومة وتسكين الجبهة قبل الانتخابات النيابية المتوقع أن تدخل الأردن في ورطة سياسية أخرى بسبب القانون المؤقت الذي أقر خارج مجلس الوزراء وفرض على الجميع قبل أن يستتبع بحملة علاقات عامة للتركيز على جوانبه الإجرائية لا الجوهرية السياسية.

ممنوع الآن توجيه انتقادات حيال التفرد في صناعة القرار بعد أن استعاد الرئيس ولاية غير منقوصة مع تحجيم مراكز القوى التي كانت تتشارك في إدارة شؤون الدولة وتتصارع على النفوذ والمال والسلطة. داخل مجلس الوزراء تمرر غالبية القرارات بدون نقاش. وإذا بدىء نقاش ما يفهم الوزراء بأن هذا هو "المطلوب من فوق". ممنوع انتقاد عملية تعيين وتبديل موظفي الإدارات العليا - أكثر من 70 تم تدويرهم على دفعات خلال الشهور الثمانية الماضية- بعيدا عن عيون اللجنة الوزارية التي شكّلها رئيس الوزراء بداية العام. غالبية تلك التعيينات تطبخ بسرية تامة خارج دار الرئاسة على يد فريق محصور من معاونين أتى بهم الرئيس من القطاع الخاص والعام الذي عمل فيه خلال السنوات العشر الماضية. تعيينات تتحرك ضمن دائرة ضيقة من محاسيب وأصدقاء بمن فيهم وزراء دخلوا التعديل الحكومي الأول قبل أسبوعين يصعب على احد الدفاع عن أسس اختيارهم المهني لتولي حقائبهم.

يواكب ذلك قرارات "تفنيش" تعكس روح تصفية حسابات مع أي موظف عطّل مصالح سابقة أو لديه ملاحظات على سياسات, حسبما يشتكي عدد من "المفنشين".

في السابق كان تشكيل الحكومات معلم سياسي, وغالبا يتم اختيار أعضائها على قاعدة محاصصة المحافظات. اليوم غدا موظفو ومدراء أقسام شركة خاصة في المحافظة الأكبر في الوطن تأكل نصيبا من التعيينات والتعديلات والمناصب الحكومية. الوزراء الأقرب للرئيس لم يعرفوا عن التعديل الحكومي إلا قبل أداء القسم بسويعات.

بعد هذا وذاك, يقفز التساؤل لمصلحة من يتم التقليل من حراك جبهة رفض سياسي مجتمعي تتسع يوما بعد يوم وتحل مكان المعارضة السياسية التقليدية? لمصلحة من تضرب وحدة اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين وتشق صفوف المعلمين? لماذا وصل التأزيم مع الإسلاميين إلى هذا الحد? لمصلحة من يطلب من أعيان الاستقالة من مجلس الملك لخوض الانتخابات النيابية? لماذا لا تفتح قناة خلفية مع التيار الإسلامي لثني الإخوان المسلمين وحزب يساري وآخر وسطي عن مقاطعة "العرس الديمقراطي", الذي يتحول تدريجيا إلى مأزق للأحزاب وللحكومة? لمصلحة من يتم تغليب الخاص على العام? لمصلحة من تسابق الأردن ولم ينجح في استضافة مؤتمر خماسي لإطلاق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين هدفها إدارة الأزمة وليس حلها? والكل يعلم أن أفق المفاوضات مسدودة "القريبة" و"المباشرة", تحت الطاولة وفوق الطاولة.

تخيلوا ما سيكون عليه وضع الحكومة اليوم لو ظل مجلس النواب فاعلا ولم يلجم الإعلام التقليدي. وإذا لم تنتبه السلطة التنفيذية لمخاطر سياسة الاستفراد في صناعة القرار, قد يتجه الأردن لدخول إرهاصات أزمة ,1989 التي كانت نتائجها كارثية بكل المقاييس لولا استشعار الملك الحسين نبض الشارع وعودته إلى مسار الديمقراطية لتنفيس الاحتقان وتوسيع قاعدة المشاركة في صناعة القرار. آن الأوان لتوسيع تلك القاعدة ومأسسة أطر الحاكمية الرشيدة والمساءلة, الشفافية والنزاهة, ورفع الوصاية عن الإعلام; أساسيات لا بد منها لتعزيز دولة المؤسسات والقانون والمواطنة وليس مدرسة "س" أو "ص" في الحكم.

والله والوطن من وراء القصد