لماذا تجرأوا على «الغش»؟

لماذا تجرأوا على «الغش»؟
الرابط المختصر

ما فعله وزير التربية والتعليم باختصار هو أنه صمم على مواجهة ظاهرة “الغش” في امتحان التوجيهي، ويبدو أنه استعد لذلك اعتماداً على خبرات الوزارة سابقاً، فعهد إلى ديوان المحاسبة بتوزيع أوراق الامتحان، وتعاون مع وزارة الداخلية والأمن لضبط العملية وردع المتجاوزين، واستعان بالتكنولوجيا الحديثة للتشويش على أجهزة الاتصال الناقلة لـ”الغش”، وحصر عدد القاعات التي يقدّم فيها الامتحان، وحدد مواصفات المراقبين عليه، لكنه اكتشف أن كل هذه الاستعدادات لم تمنع الطلاب من محاولة الغش، كما لم تمنع الأهالي من التجمهر والاحتجاج ضد حرمان ابنائهم من الغش.

المشكلة - هنا - ليست في “الأدوات” التي استخدمها الطلبة لتمرير الأسئلة أو الإجابات، فنحن نستطيع أن ننتصر بالتكنولوجيا على التكنولوجيا، كما أن المشكلة ليست بغياب “القوانين الرادعة” فقد حرم من الامتحان مئات الطلبة ويمكن أن ينضم اليهم آخرون لكي يعاقبوا على “فعلتهم” الخاطئة، لكن المشكلة - على ما يبدو - أكبر من ذلك، فهي تتعلق بتراجع “سلطة” الإخلاق في مجتمعنا، لدرجة أن كل ما يمكن أن “نفزع” إليه من ردع ومعالجات واحتياطات، سيصطدم بجدار الفشل، لسبب بسيط هو أن “نزعة” الغش التي تعبر عن “سقوط” الأخلاق أو عن حالة “التسفل” القيمي الذي طرأ على مجتمعنا، أصبحت نزعة أصلية ومتجذرة داخل شخصية بعض أبنائنا وإخواننا، وهي لم تصبح كذلك فجأة و دون أسباب، بل لها جذور عميقة، ولديها مبررات ومسوغات، وهم - بالطبع - وإن كانوا مسؤولين عنها ومدانين في نظرنا لارتكابهم لها، إلا أنهم - ايضا - ضحايا من ضحاياها، كما اننا جميعا مسؤولون معهم، ويفترض أن تلحقنا الإدانة ايضاً.

ما رأيناه في “قاعات” التوجيهي من تجاوزات امتدت من الطلبة الى الأهالي، ومن “تجار” الاسئلة الى بعض المحسوبين على “التعليم”، يضعنا أمام سؤال محرج من شقين: احدهما يتعلق بما تعانيه شخصيتنا العامة من اضطرابات وازدواجية وانفصام، باعتبار اننا “ضحايا” لمدرسة جدلية أورثتنا أن نقول ما لا نفعله، أو أن نفعل ما لا نقوله، وان نطالب الآخرين بما يلزم ولا نلتزم بما نطالب به غيرنا، وان نستعرض نظرياً تمسكنا بالقيم والمبادئ فيما نحن اول من يحطمها وينحرف عن مسارها، أما الشق الثاني فهو أن أخلاقنا الفردية والعامة تعرضت لانتكاسات قاتلة، وهذه بالطبع لها اسبابها المتعلقة بالإخفاقات السياسية التي سمحت ببروز مفاهيم جديدة للقيم، فمع غياب العدالة ظهرت الشطارة والفهلوة، ومع تراجع الثقة برزت ظاهرة الاستقواء على الدولة ومحاولات انتزاع الحقوق بـ”اليد”، ومع انحسار السماحة والشهامة والمروءة سادت نوازل العنف والشدة والتطرف.. وهكذا.

ومن الأسباب الأخرى - أيضا - ما يتعلق بحالة “التدين” التي انتجت انماطاً من القصور والممارسات المغشوشة، بحيث اصبح “تديننا” منحصراً في اطار ما علينا من التزامات مفروضة كالعبادات مثلا التي تحولت الى عادات، فيما بقيت سلوكياتنا معزولة تماماً عن “الدين” فنحن نصلي ونصوم ونحج، ولكننا لا نتورع عن ممارسة الغش أو الإساءة أو عدم احترام القوانين وحقوق الآخرين هكذا...

الذين تجرأوا على “الغش” في امتحان التوجيهي، ووجدوا “دعمأً” من اهاليهم، وقبولاً - احيانا - من المجتمع، ليسوا هم الوحيدون الذين “سقطوا” في امتحان “الأخلاقيات” العامة، فنحن رأيناهم واكتشفناهم بفضل الإجراءات الحازمة التي قامت بها وزارة التربية بعد سنوات من “التغطية” على الخطأ والسكوت على التجاوزات، لكن ثمة آخرين سبقوهم الى هذا “السقوط” وإن كانت الفرصة لم تتح لنا لمعرفتهم أو ضبطهم في  “الجرم المشهود”، وهؤلاء يتوزعون على مواقع عديدة، ومن أعمار مختلفة، وربما تجرأوا على ما هو اسوأ من “الغش”.. وبالتالي فإن ظاهرة “التسفل” الأخلاقي لا تنحصر فقط في “الغش بـ” الامتحان بل تتجاوزه على كافة صور “الفساد” بما فيه الكذب والنفاق والإدمان على الرذائل، والظلم والفحش في الخصومة..الخ، وهذه -للأسف- اصبحت سمات عامة لطبقات في مجتمعاتنا اصبحت تعتقد أن الالتزام بـ”الأخلاق” مجرد وصفة لـ”الحمقى” والهبل والقانعين بنصيبهم القليل في هذه الدنيا.. أما الأذكياء والشطّار فهم صنف آخر بمواصفات أخرى تتناسب مع العصر.. وترد على أسئلته بإجابات أخرى

الدستور