كليات الشريعة تهدد مستقبلنا

كليات الشريعة تهدد مستقبلنا
الرابط المختصر

 

مفارقتان تستحقان العرض قبل مناقشة أزمة مناهج كليات الشريعة في جامعاتنا وتأثيراتها السلبية، وعداء أساتذتها لقيم الحداثة والتنوير برعاية رسمية تشهد عليها كثافة استضافتهم في محاضرات تنظمها مؤسسات حكومية وجامعات وجمعيات أهلية للحديث عن قضايا المجتمع ومشكلاته بوصفهم علماء يمتلكون حلولاً سحرية لها، لكن ازدياد أعدادهم وحضورهم يوازيه تراجع مستمر في القيم ومنظومة الأخلاق!

 

المفارقة الأولى توضحها نسبة الإناث اللواتي يلتحقن بأقسام الشريعة، والتي تتجاوز 80% من مجموع الطلبة، بحسب تصريحات سابقة لوزراء أوقاف تفنيداً منهم لأسباب نقص الأئمة، فما معنى الاستمرار بتدريس تخصص جامعي لا يتمكن أغلب خريجه من العمل به في الخطابة والإمامة كونهن من النساء، بل ترفض المؤسسة الدينية الرسمية والأكاديمية كل الدعوات والفتاوى التي أطلقها رجال دين وباحثون عرب أباحوا فيها اشتغال المرأة إمامةً وخطيبة، علماً بأن هناك نحو 2700 إمام غير مؤهل شرعياً.

 

بعيداً عن الخلاف الفقهي حول إمامة المسلمة، فإن الواقع يشير إلى آلاف العاطلات عن العمل من خريجات الشريعة، نتيجة انحسار فرص تشغيلهن إلا في قطاع التعليم، لذلك يصبحن ربات منزل ينقلن معرفةً إلى أولادهن يغلب عليها التشدد وعدم إخضاعها لقواعد العلم، كما سأفسر في مقالي لاحقاً.

 

تتجلى المفارقة الثانية بأن معدلات السواد الأعظم من المقبولين في كليات الشريعة متدنية جداً في امتحان الثانوية العامة، ولم يلتفت أحد إلى أنه لم يلتحق أكثر من 20 طالباً في جميع كليات الشريعة في الأردن عام 2008، حين رفع مجلس التعليم العالي معدل  القبول بها إلى 70%، بهدف تحسين مستوى طلبة الشريعة، مما اضطر أساتذة وعمداء الشريعة إلى توجيه مذكرة إلى الملك يلتمسون منه خفض معدل القبول إلى ما دون ذلك.

 

المثير للانتباه  هو ضعف اللغة وركاكة الأسلوب وقصور الرؤية والحجة التي تضمنتها مذكرة كتبها أفراد يفترض أنهم يحملون شهادة الدكتوراه، والأدهى من ذلك أنهم يقولون بصريح العبارة إن "الدولة غير ملزمة بتعيين خريجي الشريعة"، نظراً إلى فقر تحصيلهم الدراسي خلال المرحلة الثانوية، ولا يغيب عن البال أنهم يدافعون عن وجودهم مهما تدنى مستواهم العلمي، وعن صلاحيات ممنوحة لهم في التحليل والتحريم ومناقشة أي قضية أو مسألة ليس لديهم أدنى معرفة بها.

 

للأسف الشديد عادت كليات الشريعة لقبول طلاب تقل معدلاتهم عن 70% في التوجيهي، وهنا تبرز الخطورة في اعتمادها خطة دراسية تكفل مخرجاتها تغذية التطرف وعدم قبول المجتمع لكل قيم الحداثة التي تحاربها مناهج "الشريعة"، سواء تمثلت هذه القيم بقوانين وأنظمة عصرية أو بنمط المعيشة أو في الأدب والمسرح والموسيقى والفن.

 

يعارض رجال الدين، ابتداءً، تحكيم مناهج البحث العلمي في تخصصات الفقه وأصول الدين وغيرها، مهما خالف تفسير القرآن والحديث ومرويات السيرة النبوية أبسط قواعد المنطق، ومهما عارض الفقه ومدارسه وأحكامه العقل، بل إن هناك أساتذة شريعة يجاهرون ليل نهار بحرمة استخدام مناهج البحث الحديثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وينادي بعضهم (ممن يوسمون بالاعتدال) بضم تخصصات علم الاجتماع والتربية والإرشاد النفسي وغيرها لكلية الشريعة.

 

لا يقف الأمر عند معارضة العلم، حيث يعلم الكثير أن المدراس السلفية هي الأكثر انتشاراً في كليات الشريعة، وأن جزءاً لا يستهان به من المساقات التي يدرسها الطلبة هي كتب متشددة تم وضعها في فترة متأخرة في ثمانينات القرن الماضي وبعدها، وكانت المدونات الفقهية في بلادنا لرجال دين أشاعرة يمزجون بين المذهبين الحنفي والشافعي قبل غزو الوهابية لهم، وفرض أحكامها المتشددة على مجتمعنا.

 

المضحك المبكي أن مؤتمرات عديدة عقدت لمناقشة آفاق تطوير تدريس الشريعة في الجامعات العربية، وكانت تقدم خلاصات إنشائية حول مواكبة العصر ومستجداته، بينما لم تقبل كلية شريعة واحدة في الوطن العربي بطروحات محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وحسين مروة، وفهمي جدعان ومحمد شحرور وغيرهم من قامات التنوير التي درست الإسلام بمنهجيات بحث معاصرة، واستطاعات أن تقدم تصورات عميقة لواقعنا واقتراحات عملية لفهم معضلاته.

 

كليات الشريعة عبء حقيقي على أمن مجتمعاتنا وتطوّرها، حتى لو لم تستشعر ذلك غالبية المجتمع المسكونة بالخوف من الآخر والاعتقاد بوجود استهداف دائم لديننا، وما اعتراض بعض النخب على تكريس ورعاية الدولة لدعاة وأساتذة شريعة يستحوذون على المنابر والإعلام إلاّ عارض بسيط لأزمة أعمق تتعلق بماكينة اسمها كليات الشريعة تواصل إنتاج قيم التخلف والخراب.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.