كتاب "الاستعجال" لحكومة "الاستمهال"
توقف مليّاً أمام "كتاب التكليف الثاني" الذي وجهه جلالة الملك عبدالله الثاني إلى رئيس وزرائه الدكتور معروف البخيت ، لنقرأ فيه جملة من المعاني والدلالات الهامة... لا من حيث مضامينه وأولوياته فحسب ، بل ومن حيث "صرامة اللغة وحزم العبارة" أيضاً... ما ينبئ بضيق الملك من المراوحة والتباطؤ والمسار "السلحفائي" لعملية الإصلاح... لكأنه أراد حث حكومته واستعجالها في إنجاز مضامين كتاب التكليف الأول ، معادّ قراءتها من جديد في ضوء التطورات المحلية وتبدلات الإقليم من حولنا.
نقول كتاب تكليف ثانْ ، ولا نقول رسالة ، مجرد رسالة... إذ اشتمل على أبرز العناوين التي تؤرّق المجتمع الأردني وتتصدر أجندته الوطنية ، سواء في ميادين الإصلاح السياسي أو الاقتصادي... وكان لافتاً ذلك التركيز على محاربة الفساد وكف يد الأجهزة الأمنية عن الجامعات وإيلاء اهتمام بحزمة القوانين الناظمة للعمل العام ، وفي صدارتها قانون الانتخابات العامة ، فضلا عن القوانين الناظمة للإعلام والصحافة ، لتدارك ما يمكن تداركه من هبوط وتراجع في أداء الإعلام الرسمي.
لن نعيد سرد ما ورد في الكتاب ـ الرسالة... فهو متاح لكل من رغب في القراءة المتأنية والاستزادة... سنتوقف عند دلالة "توقيته" ، بعد أقل من شهرين على تشكيل حكومةْ لم يلمس كثيرّ من المواطنين أنها سائرة على طريق الإصلاح السياسي بالسرعة المطلوبة... فجاءت رسالة الحث والاستعجال الملكية هذه ، لتضع حداً لـ"التمطي" و"الاستمهال" الذي يميّز عمل الحكومة وأداء فريقها الوزاري ، لكأننا نعمل في فراغ ، ولدينا من الوقت ، فسحة لا تنتهي.
لكأني بالملك يعلّق جرس الإنذار للحكومة ، رئيسا وفريقاً وزارياً... أمامكم فسحة قصيرة من الوقت... فإما إن تنجزوا ما هو مطلوب منكم ، أو تفسحوا المجال أمام غيركم ليضطلع بالمسؤولية ويقوم بالدور في هذه اللحظة التاريخية الحرجة في عمر البلد والإقليم على حد سواء.
والحقيقة أن المتأمل في كتاب التكليف الثاني ، يجد أن معظم إن لم نقل جميع ما ورد فيه ، سبق أن اشتملت عليه ، كتب تكليف سابقة ، ورسائل مشابهة للحكومات المتعاقبة ، بما فيها هذه الحكومة... والمؤسف حقاً أننا بعد عشر سنوات من المحاولات المتكررة لإنجاز هذه الملفات ، نعاود طرحها من جديد ، وفي ظرف أصعب... فالمسافة بين "الرؤية الملكية للإعلام" و"الاستراتيجية الوطنية للإعلام" التي دعت إليها الرسالة الملكية الأخيرة ، تقارب العقد من الزمان ، فيما الإعلام الرسمي وفقاً للرسالة ، في تراجع واندحار... لا أحد سأل ماذا تحقق من الرؤيا... لا أحد يُسائل المسؤولين عن اغتيال الإعلام الحكومي.
وما ينطبق على الإعلام ينطبق على بقية الملفات... ألم تحمل حكومات عديدة اسم "حكومات الإصلاح السياسي" ، ذهبت الحكومات وذهب الإصلاح السياسي معها... ألم نتحدث عن "المواطنة" وحقوقها وعدم جواز التطاول على الحقوق الدستورية للمواطنين بسحب جوازات سفرهم وأرقامهم الوطنية ، مرات ومرات ، عمليات سحب الجوازات والأرقام والجنسيات ما زالت مستمرة... ألم نتحدث عن العدالة الاجتماعية والطبقة الوسطى مرارا وتكراراً ، أين هذه وتلك أمام زحف جيوب الفقر وجيوش العاطلين عن العمل... لقد تم التطرق لكل هذه العناوين ، وفي مقدمتها محاربة الفساد ، لم نر كثيرا من الفاسدين الكبار خلف القضبان ، القضبان "عند جد" ، وليس السجون ذات السبع نجوم... كل هذه العناوين كانت موضعا لكتب التكليف والرسائل الملكية ، أما على الأرض ، فإن الوضع إلى تفاقم ، ومشاكلنا إلى مزيد من التعقيد.. وهذا ما تقوله الرسالة الملكية ذاتها على أية حال.
أين المشكلة إذن؟... هل المشكلة في الحكومة ـ الحكومات؟... هل أخطأنا الاختيار ، وكم مرة يمكن أن نخطئ وأن نعيد الخطأ ذاته؟... هل المشكلة في قوى الشد العكسي المستنفرة باستمرار للإطاحة بـ"ثوراتنا البيضاء"... هل يمكننا أن نهزم هذه القوى... وكيف يمكن استئصال شأفتها ومن بمقدوره أن يفعل ذلك ، وبقيادة من ورعاية من؟.
لقد ثبت يا جلالة الملك ، أن الحكومات التي تأتي وتروح ، بلا رؤية تجمعها... ولا مرجعية سياسية وفكرية تربط بين عناصرها ، هي جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل... لقد ثبت يا سيدي أن طريقة تشكيل حكوماتنا لم تعد صالحة أبداً... لقد تأكد لنا يا جلالة الملك أن شكوانا التي بدأنا بها منذ سنوات طوال لا حلول لها ، إلا بتغيير قواعد اللعبة السياسية في بلادنا ، وقواعد اللعبة الجديدة ، تقتضي من ضمن ما تقتضي الذهاب إلى إصلاح دستوري ، يمكّن من انتخاب برلمان جديد وفق قانون جديد للانتخاب ، وتشكيل حكومات منتخبة على قاعدة الأكثرية والأقلية ، والشروع في إنجاز تداول حقيقي للسلطة في البلاد ، على أن يتزامن ذلك مع "انسحاب الأجهزة الأمنية" من الإعلام والجامعات والبرلمان والانتخابات والمجتمع المدني والنقابات العمالية وترك الأردنيين يبنون أردن المستقبل ، بكل حرية وكرامة وتعددية وديمقراطية مثرية لحياتنا ، في دولة المؤسسات وسيادة القانون الواحد السيّد.
لو أن الرسالة الملكية تضمنت جملة واحدة إضافية ، تفتح الباب أمام الإصلاح الدستوري ، لقلنا أنها تصلح ، كما هي ، ومن دون إضافة أو نقصان ، دليل عمل لحزب الأردنيين جميعاً.... حزب الإصلاح والتغيير الذي نتطلع إليه لنقل الأردن إلى ضفاف المستقبل والقرن الحادي والعشرين... إنها وثيقة تاريخية هامة ، أكبر من أن تحملها حكومة ينتمي معظم طاقمها ، لقوى الشد العكسي ونظرية الإصلاح بعد "مائة عام من العزلة"... إنها وثيقة إصلاحية ، أكبر من أن تحملها لجنة حوار وطني ، تشكلت على عجل ، ووفق حسابات نعرفها جميعاً ، وافتقرت للتوازن في تمثيل مختلف القوى والمشارب والأصول والمنابت ، وبتفويض ناقص ، نأمل أن يكون بعض أعضائها الإصلاحيين حقاً ، وهم أقلية فيها ، قد نجحوا قولا وفعلا ، في توسيعها وتطويرها ، ليشمل الدستور ، عقدنا الاجتماعي الناظم لحياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
نأمل يا جلالة الملك ، أن لا يأتي يوم ، قريباً أو بعيداً ، تضطر فيه ، لأن تخاطب الحكومة ، هذه أو التي ستليها ، بنفس عناوين خطابكم المتقدم والمعبر عن مكنونات صدورنا... فالفجوة بين الخطاب والممارسة لم تردم بعد ، والحكومات باتت جزءا من المشكلة بدل أن تكون جزءا من الحل ، وتغيير قواعد اللعبة بات مقدمة ضرورية ، لا بد منها ، لإنفاذ خطابكم ، وترجمة مراميه السامية.
حفظ الله الأردن من كل مكروه.
الدستور