قبر أكبر من وطن!
لا أشك أن الغالبية العظمى من الأردنيين يشعرون بالارتياح، على أقل تقدير، لأن بلادهم اتسعت لجثمان السياسي العراقي الراحل طارق عزيز. ويحق لهم، ليس فقط لأن هذا الموقف ينسجم مع موقف وجداني أردني تجاه العراق، ويؤكد العلاقة معه في صيغته العربية، وبرموزه الذين خاضوا مجابهة كبيرة مع ما يسمى "المجتمع لدولي"، شكلت نهاية صاخبة لأكثر القرون دموية؛ بل لأن الأردن باحتضانه جثمان السياسي الراحل، الذي يحظى بتقدير أردني عام، لـ"أسباب انسانية" يعطي إشارات توضح حجم الظلامية الانتقامية التي تحتل العراق منذ اجتياح الدبابات الأميركية أراضيه!
الظلامية الانتقامية جعلت من المستحيل أن يقدّم الوطن العراقي قبراً آمناً لجثمان واحد من أهم أبنائه وسياسييه وزعمائه، بعدما فشل في أن يمنح عائلته وعشرات آلاف آخرين من العراقيين الأمان على أنفسهم، وذويهم، فهربوا إلى الخارج بأنفسهم بمن استطاعوا تسفيرهم معهم من الأقرباء.
الظلامية ذاتها التي نقلت السياسي الراحل من سجن الكاظمية في بغداد إلى سجن الناصرية، ليكون مضموناً أنه لن يطلق سراحه عند أي تحول سياسي يتحرر من اللوثة الطائفية.
الظلامية الطائفية تلقي الضوء على طائفية "الحشد الشعبي" البشعة، و"إيرانيته" التي لا تنتسب إلى الضرورات السياسية، لكنها تتشطط في الحقد والانتقام، وتكشف عن حقيقة تمييع مسألة إقرار قانون الحرس الوطني.
الظلامية الطائفية التي كشفت أن العملاء الأميركيين هم في حقيقة الأمر كومبارس إيراني، لعِب دور التعامل مع الأميركيين في احتلال العراق، وما أن أتم الأميركيون "مهمتهم" بإسقاط النظام العراقي السابق، حتى سارعوا بتسليم العراق لأسيادهم.
الظلامية نفسها جعلت الإيرانيين يختبئون وراء عملاء عراقيين، لتجنب أي وساطة ضاغطة، قد تدفعهم إلى التدخل الإنساني، والإيعاز لأتباعهم أن يكفوا عن الرجل المريض، ويتركوا له أيامه الأخيرة لينظر في وجوه أفراد عائلته، ويقرأ للمرة الأخيرة صحيفته المفضلة!
عموماً، ليس هذا موضوعي..
موضوعي يتعلق بالأردن الذي استضاف جثمان السياسي العراقي الراحل لـ"أسباب انسانية" تتعلق بالعائلة وحق الراحل، كأي ميت، في قبر يلمّ رفاته بأمان، وأن يحظى بتشييع بالطريقة التي تتناسب مع اعتقاداته الدينية، وتفي حق عائلته المكلومة، وتتناسب مع أحزانها وأحزان محبي فقيدها. وهذه كلها إلى جانب الحق بمدفن في الوطن العراقي، حقوق بديهية. أو بالأحرى "طبيعية"، مثل حق الأم بحضانة أطفالها، لا يسقط حتى بالتنازل عنه مقابل لقاء مادي مدفوع؛ وأتذكر أن الأردن نفسه، رفض دفن أحد أبنائه على أرض وطنه!
إن كان أحد ما نسي، فليتذكر أن الحكومة الأردنية مانعت علناً وبشكل رسمي دفن أبو مصعب الزقاوي في مسقط رأسه، وحينها لم تعن بالنسبة إليها "الإنسانية" تجاه القتيل ولا ذويه، أي شيء. ولم تجد في "الأسباب الإنسانية" شيئاً يؤخذ بعين الاعتبار، وضربت عرض الحائط بحقوقه الوطنية و"الطبيعية"، التي لا تملك أي جهة، حق مصادرتها منه، حتى ولو تنازل عنها شخصياً.
ولن أتحدث عن حقوقه المدنية والوطنية؛ بل أني لن أغالي باستغراب هذا السلوك، فقد بتنا نسمع كثيراً عن دول لا تتردد ماكينة الفساد فيها من القبول بدفن نفايات نووية على أراضيها، بينما يضيق صدر أمنها عن منح مواطن قبراً في ترابها. يذكرني ذلك بالتجارب العالمية التي أثبتت أن "الأمن" إذا ما بات يتحقق على حساب الحقوق المدنية والوطنية و"الطبيعية"، فنحن بالضرورة أمام فشل عميم، يتعدى المؤسسات الأمنية إلى الأجهزة السياسية.
هذا بالطبع، كلام بعيد عن أن يكون دفاعاً عن أبو مصعب، المدان بعرْفي، لكن لنا الشرف فعلاً أن يجد الراحل طارق عزيز مكاناً لجثمانه في بلادنا، في الوقت الذي غرق فيه وطنه العراق في ظلامية انتقامية لا توفر الجثث والقبور، وبينما نتشرف بذلك، لا نملك إلا أن نتذكر أن حكومة بلادنا سجلت على نفسها، وعلينا، وعلى دولتنا، موقفاً يجعلنا سواءً بسواء مع بقية الميليشيات الطائفية في العراق، التي لا هم لها إلا الانتقام من أبناء جلدتها ووطنها، بطريقة تخرق وتتجاوز كل الأعراف الإنسانية.
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.