فوضى كاملة

فوضى كاملة

 

 

من الواضح تماماً أن تنظيم داعش ليس العدو الأول لأي من الأطراف التي تقاتله في الميدان أو تناطحه في الإعلام. ولكن من المؤكد تماماً أنه العدو الثاني في الترتيب على قائمة كل الأطراف. وينطبق هذا التقدير على الجميع؛ سواء كنا نتحدث عن أطراف محلية أم جهات دولية.

 

إن الحرب على تنظيم داعش، وعلى الإرهاب عموماً، هي وهم، وكذبة يجري تسويقها بتواطؤ المجتمع الدولي وخصومه، على حد سواء. وفي الحقيقة، لا يزال الإرهاب الإسلاموي يؤدي وظيفته التاريخية في تقديم قوى عنيفة عمياء تضرب في كل اتجاه ممكن وعشوائياً، برضى وقبول جميع الأطراف، التي تتنافس على الاستثمار السياسي والميداني لهذا العماء الدموي.

 

وتنظيم داعش هو العدو الثاني على قائمة كل الدول والأطراف والجهات، لأنها كلها تعرف أنها على بعد فرصة سانحة من هذا النوع المظلم من الإرهاب، الذي يُكفّر كل الدنيا ويعادي الزمن، ويتبرأ من العقل لأنه "ابتعد" عن نص وتاويل نص الفكرة الأولى.

 

و"داعش" بحقيقته الإرهابية يفهم أنه مطلوب في الميدان، وأن له أسهماً في السياسة عند الدول والجهات والأطراف الدولية، وأن حجم الطلب على هذه الأسهم وقيمتها، ترتفع كلما أيقنت هذه الأطراف والجهات أن "التنظيم" لا يزال منفلتاً، وليس طوع أحد على وجه التعيين، وأن عقله لا يزال بعيداً عن التفكير بفداحة "الضرب الأعمى في كل الجهات" ومنافاة ذلك مع السياسة والتفكير والمنطق، والإخلاص لأي مبدأ.

 

لقد بات هذا الوحش يدرك أنه لا يتحمل أية مسؤولية سياسية، فكل الأطراف تحمل بعضها البعض مسؤولياته وتبرؤه؛ وأنه ليس ملتزماً تجاه طرف بعينه، وأن قيمته الكبيرة في السوق السياسية تشبه قيمة مائدة الروليت التي ليست مدينة بالإخلاص لأي من زبائن "الكازينو"، وليست ملزمة باللاعبين ومقدار ما يبذلون من أموال، ولكن تخدمها لحظة تعزيز الإيمان بالحظ العشوائي.

 

المفزع في هذا السياق أن البرنامج الوحيد الذي يجري التمسك به هنا، من قبل داعش و"خصومه"، هو "الفوضى الكاملة"، بكل مخزوناته الدينية المتزمتة. وهو البرنامج الذي يحيل إلى برنامج المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وعهدهم الذي ترأسه جورج بوش الابن، الذي محوره "الفوضى الخلاقة"..

 

والربط بين "الفوضى الكاملة" و"الفوضى الخلاقة" ليس صعباً، وليس عديم الأساس. بل على العكس من ذلك هو ضروروي، لفهم اسلام "داعش" و"عثمانية" اردوغان و"تروتسكوية إيران".. وهو ضروري لفهم لماذا تتوالد "القاعدة" بنشاط، بينما يصيب العقم أميركا.

 

وهو كذلك ضروري لفهم ما جرى في العالم خلال ربع القرن الأخير؛ خلال ربع القرن الأخير "انتهت" الحرب الباردة، واعتقد متطرفو الولايات المتحدة أن قيادة العالم آلت إليهم، فشطبوا بجرة هوج الهامش الأوروبي، ثم فرضوا البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الذي تريدونه على العالم عبر المؤسسات المالية الدولية وكوارث صندوق النقد والبنك والدوليين، ومن خلال المؤسسات والآليات الأميركية..

 

نتيجة البرامج التي تم فرضها على العالم. العالم كله، الأول والثاني والثالث. وهذه هي النتيجة والحائط المسدود الذي وصل إليه نظام القطب الواحد الأميركي في أوج اعتقاده بانتصاره، وقناعته بأن برامجه هي الأقدر على البقاء في صراع الغاب.

 

لقد كان تنظيم "القاعدة" ردة فعل على احالة "الجهاد" العربي، المرتزق الأعمى، في أفغانستان إلى التقاعد بحلول عصر نظام القطب الواحد الأميركي. ولكن "داعش" هي ابنة ذلك النظام القطبي الواحد، بينما يدافع عن نفسه، وبقائه في معركة فوضى كاملة يائسة!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك