فوضى التايتانك... والضامن هو الملك!!!
قطار الإصلاح السياسي الذي انطلق من محطة الديوان الملكي قبل أيام يؤمل أن يصل محطته النهائية في العبدلي ضمن جدول زمني متدرج, تمهيدا لتشكيل حكومة برلمانية في الدوارالرابع مهمتها الأساسية تكريس مبدأ الفصل بين السلطات واستعادة ولايتها العامة وتوفير مخرج آمن ينهي أزمة إدارة الدولة بمفاصلها كافة.
فبعد سنوات من التخبط واستدارات المسؤولين حدّد الملك عبد الله الثاني من دون لبس أهداف الإصلاح السياسي المنشود وموقفه من السجالات الدائرة في البلاد, وذلك في مناسبة وطنية غالية قبل أسبوع.
الملك يريد حكومة برلمانية, أحزابا قوية ذات أجندات وطنية واضحة تمثل الطيف السياسي فضلا عن تداول سلمي للسلطة التنفيذية بالتوازي مع إصلاحات اقتصادية-اجتماعية. كما يطالب بإعادة تصميم سياسات الدولة وعلاقتها بالمجتمع والناس لجهة ما تفرضه من قيم وأحكام. ويصر على أن إشكالية الهوية الوطنية لا تتحدد بالأصول والمنابت بل بالعمل والانتماء. ويرفض احتكارأي جهة لمشاريع الإصلاح, بينما يقف هو على مسافة واحدة من مختلف الأطراف وطالب برفع كل أشكال التمييز ضد المرأة في المنظومة التشريعية.
لكن ثمّة مخاوف من تحرك قوى شد عكسي متجذرة في مراكز صنع القرار لمد سكك فرعية تخرج خط الديوان-العبدلي عن مساره من أجل حماية نفوذها ومكتسباتها عبر إلهاء الآخرين بمخارج فرعية. من هنا على مكونات الدولة الرسمية والشعبية حماية قطار الإصلاح, الذي غادر محطته الأولى بضمانة شخصية من الملك حتى تتحقق عملية تنفيذ مخرجات لجنتي الحوار الوطني وتعديل الدستور بالتزامن مع تعزيز الإصلاحات الاقتصادية والإدارية.
وفي حال سمح لهذه القوى مرة أخرى بتعطيل المسار كما حدث في مرات عديدة خلال العقد الماضي, ربما يغدو حالنا كحال الركاب الذين صعدوا باخرة "التايتانك" العملاقة عام 1912 في أجواء احتفالية رافقت انطلاق أولى رحلاتها من لندن إلى نيويورك وعلى متنها 2238 راكبا لتغرق قبل موعد وصولها بساعات بعد أن انشطرت إلى جزءين. مات نصف الركاب تقريبا في تلك المأساة.
فالباخرة الملقبة بالتايتانك, أي (المارد) و(السفينة التي لا تغرق) كانت تحفة معمارية أشبه بالقصر الفخم الذي تميزت محتوياتها الداخلية المدهشة بالأبهة, مدعومة بآخر ما توصلت إليه عقول ذلك العصر من تقنيات تعكس أعلى درجات الأمان, ما افترض أن احتمال غرقها كان من سابع المستحيلات.
الروايات تفيد بأن قبطان السفينة ترك عجلة القيادة إلى ضابط أول قبل أربع ساعات من وصولها إلى وجهتها لكي يقدم واجب الحفاوة والتكريم لكبار القوم من ركاب السفينة. وكان التخلي عن دفة القيادة بداية النهاية. تبين للضابط الصغير وجود هالة من السواد تنبئ بوجود جبل جليدي على مسار الإبحار, تبعد ثمانية أميال بحرية, فأعطى قرارا مفاجئا بتحويل مسار السفينة ما نتج عنه اصطدام وتهشيم جسمها الضخم.
خطاب الملك عكس ثورة إصلاحية من قمة هرم السلطة يشبه عملية تجهيز التايتانك. لكنها تواجه تحدي اختراق الكتل الرسمية والقاعدة الشعبية, حيث لا توافق مجتمعي أو رسميا حول مشروع الإصلاح.
الملك وضع نقاطا تنهي السجال المقلق حول موقف السلطة من مخرجات لجنة الحوار: المنظومة الأمنية, السلطة التنفيذية, والتشريعية بعد موجات من التذمر ومحاولات التعطيل التي خرجت وتخرج من جهات رسمية متعددة.
لكن التحدي الأساسي في هذه الظروف الاستثنائية يتمثل في القدرة على تحويل الإرادة الأمنية السائدة إلى معادلة سياسية لضمان تنفيذ التحديث وإنهاء ما يسمى ب¯"عقلية البسطار وشراء الوقت لتكريس سياسات الأمر الواقع". هذه المهمة تصطدم بتعبئة مضادة يمارسها الحرس القديم ضد التغيير وسط رياح الثورات العربية في المحيط.
حتى الآن لم تتبلور ضرورة وطنية لتسريع الإصلاحات السياسية والإعلامية على الأرض بما يتماشى مع الحراك الداخلي والتحولات البنيوية في الإقليم, كالتي رافقت رحيل الرئيسين التونسي زين الدين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك بينما يكابر قادة ليبيا, سورية واليمن في قمع المحتجين بالدبابات والطائرات.
الرسائل الصادرة عن صناع القرار ما تزال متناقضة. الملك يعلن شيئا لتصدر أصوات موازية تشوش على صوته. آخرها "أعمال البلطجة" التي لحقت بمكتب وكالة الصحافة الفرنسية في عمان يوم الأربعاء غداة بثها خبرا عن تعرض "موكب مرافق للملك للحجارة والزجاجات الفارغة في الطفيلة". نفت الحكومة والديوان الملكي ونواب المدينة وأعيانها ذلك الخبر. لكن وسط تحشيد تعبوي, أعتصم 400 شخص مساء الثلاثاء أمام المكتب مطالبين بإغلاقه ومحاكمة إدارته. وما تزال مديرة المكتب تتلقى تهديدات بالانتقام وسط شعور بأن لجنة التحقيق التي شكّلتها الحكومة "ستمغمغ" القضية على غرار المرات السابقة. هذا الاعتداء يعمق الشعور في أوساط الإعلاميين بأن الرسالة المقصود إيصالها تتعدى أسرة الوكالة لتصل كل من اختار العمل في مهنة المتاعب: وفي المحصلة إسكات الصحافة ومنعها من القيام بواجبها.
كما أن الأسلوب البدائي في التعامل مع مكتب الوكالة يسيء إلى سمعة الأردن, ويشكك في مشاريع الإصلاح التي يقودها الملك.
قبلها كانت واقعة أحداث دوار الداخلية المشينة في 25 آذار/ مارس, وصدامات الزرقاء ومسيرة العودة في غور الأردن وآخرها اسلوب التعامل مع حراك الجنوب المتنامي. الأجواء تأزمت في الطفيلة عشية زيارة الملك حين رفض المحافظ, الذي أقيل بعدها بأيام, طلبا من شباب أرادوا إلقاء كلمة أمام الحضرة الهاشمية. ثم جاء انسحاب عشرات المشاركين في الجلسة الختامية لملتقى الشباب في قصر المؤتمرات في البحر الميت اعتراضا على التوصيات التي تليت من دون الرجوع إليهم أو إشراكهم في آلية اختيار التوصيات. وأدرك المنسحبون بأن الملتقى يمنع مساهمة أي من المشاركين خارج شباب "كلنا الأردن" وغيرها من اللجان المدعومة رسميا. ناهيك عن عيوب كثيرة كشفتها ملاحظات المشاركين حول تنظيم الملتقى, فيما غيبت أصوات القوى الشبابية الجديدة والفاعلة في الشأن السياسي.
مثال آخر على التخبط, مواصلة الحديث عن الفساد من دون معاقبة رموزه مقابل علو أصوات تطالب بوقف جعجعة الفساد لمنع تلطيخ سمعة الأردن ومواطنيه. "شاهين غيت" مثل صارخ آخر. الغضب من رئيس الوزراء معروف البخيت لأنه رفض إقرار صفقة بيع أراض تملكها الخزينة داخل العاصمة قبل طرح عطاء مفتوح للجميع مثال آخر على العصي في الدواليب. ثم محاولة تشجيع رجل أعمال تركي مقيم في الأردن منذ سنوات مع انه مطلوب في بلاده على سلسلة القضايا - على شراء صحيفة أردنية مستقلة سقفها السياسي ما يزال الأعلى, بعد تدجين الإعلام الرسمي والخاص منذ سنوات.
بعد الخطاب الملكي الأخير يؤمل أن تقتنع أجهزة الدولة بأن الإصلاح والتحديث الشامل هو خير ضمان للنظام, للبلاد والشعب. ويؤمل تنسيق جهود الأجهزة الرسمية والمجتمع المدني وبقايا الاعلام الحر وصولا إلى الإصلاح المنشود بضمانة الملك. علينا جميعا التكاتف لمنع القارب المهيب من الغرق.
والمأمول أن تمر مخرجات لجنة الحوار الوطني وتعديلات الدستور عبر البرلمان لإقرار قوانين عصرية تتعلق بتعزيز دور الأحزاب, وإعادة ثقة المواطن بجدوى المشاركة السياسية في الانتخابات على أساس قانون يلبي طموحات المستقبل ولا يعكس حصرا روح الثورات العربية. كما نتمنى خفوت أصوات القوى الضاغطة التي تعمل خارج منظومة مؤسسات الدولة السيادية لأخذ حقها بيدها عبر تعريف المواطن الأردني من غيره بحسب طريقة تفكيرها, بخاصة أن مشكلة الأردن المزمنة تكمن في تعريف المواطنة والفرز قبل الحقوق السياسية.
يتطلع الأردنيون إلى آلية مؤسسية واضحة ترعى مسار الإصلاح الداخلي قبل أن نرسم خريطة حلفاء وأعداء الأردن الجدد في الخارج. فمتانة الجبهة الداخلية أساس بقاء الأردن. وعلينا إعادة ترتيب أمور بيتنا الداخلي بسرعة لتغيير قواعد اللعبة السياسية يكون أساسه تدوير حكومات برلمانية حسبما وعد الملك. فالأحزاب تستطيع تنمية الحياة السياسية داخل العشائر ما يساهم في تأطير حراك دعاة "الموالاة المطلقة" التي تستمر بالتلويح بفزاعة الاسلاموية والديمغرافية مقابل الجغرافية كلما شرع الملك في الحديث عن التحديث السياسي.
فالجناحين لا يتناقضان. يجلس الحزبيون من أبناء العشائر في البرلمان, ويبنون تحالفات مع غيرهم من القوى, ضد أي كتلة قد يكون لها أجندة داخلية أو خارجية مخالفة لآراء الأغلبية. وبذلك تتشكل حكومة برلمانية مصلحتها وطنية بامتياز, ويكون الملك قد نجح في تغيير آلية تشكيل الحكومات في المملكة الرابعة, بما يتناسب وروح التغيير التي تستهدف المنطقة لكن بما يضمن المحافظة على الوطن بمكوناته كافة.
فهل ستضمن القوى المتنفذة فرصة اخيرة لانجاح مهمة الملك في ترتيب المشهد السياسي الداخلي في ضوء العواصف الاقليمية? وهل تنهض قوى حليفة في المجتمع المقسوم لمساعدته خاصة بعد ان قال في مقابلة مع صحيفة الواشنطن بوست ان الربيع العربي "منحني الفرصة التي كنت انتظرها منذ 11 عاما" في اشارة الى رغبته بأنجار الاصلاحات التي طالما تحدث عنها?.
العرب اليوم