فلّوجاتٌ "باقية وتتمدَّد"..
الفلوجةُ على وشكِ التحرير الكامل ميدانيّاً. ثمة بؤرٌ صغيرةٌ، تُسيطرُ عليها عصابةُ "داعش"، وهي في حُكم الساقطة عسكريّاً، لتعودَ المدينةُ المحتلّةُ من الإرهاب منذ 2004 إلى العراق، ويبقى أنْ يعودَ العراقُ إليها، ويقضي على أسبابِ الخراب، بالتنمية، والتعليم، فيما تتقدّمُ القواتُ نحوَ نينوى، ومركزها الموصل. ربما حين ينتهي هذا العام، تُطوى الصفحة من حوضِ الفُرات كاملاً، بما لا يجدرُ به التذكُّرُ، مثلما انتهت "الجماعةُ الإسلاميةُ" في الجزائر.
ثمَّةَ فلّوجاتٌ كثيرةٌ "باقية وتتمدَّد". وهي ليست عراقية. هناك البيئاتُ، والحواضنُ التي نما فيها الإرهابُ في الوطن العربيّ، وقد ألهمَ حضورُ "القاعدة" و"داعش" وأخواتها وبناتها مدناً عربيّةً، لتتقمّصَ الدورَ، وتُعلن أبا مصعب الزرقاوي من قبره، والياً على التوحُّش، في تعددٍ للأسماء، وتنوُّعٍ للجريمةِ المتماسكةِ، بقوةِ النصوصِ، وبشراسةِ اللصوصِ، وبكلِّ هذه الفضيحة المشهودة. لعلَّ وضوحها يكتبُ نهايةَ الكارثة.
"داعشُ" ونسخها المنسوخةُ والممسوخةُ في سورية ومصر وليبيا والأردن والسعودية واليمن، وأفغانستان، والباكستان، وحتى أوروبا وأميركا، ليست ذلك التنظيم المرعب، الذي بدا متماسكاً، لشدَّة خيالهِ الجرميّ. ثمَّةَ مجرمونَ يحلمونَ بتكرار الفلّوجة في كلّ العالم. لذلكَ، فإنَّ سقوطَ فلّوجتهم في العراق بالغُ الأهميّة، ويبقى أنْ تسقطَ فلّوجاتٌ عدة، وذلكَ ما لن تحققه القوةُ العسكريّةُ وحدها.
ثمةَ من سعى إلى التشويشِ على معركة تحرير الفلّوجة، التي خاضتها المكوناتُ العراقيّةُ كلها، لطردِ الانتحاريين الذين أمعنوا في إجرامهم ضدَّ عراقيين، لا يعرفون من الأسلحة، أكثرَ من السكاكين في المطابخ. قُتِلَ الأطفالُ حولَ عربات المُثلّجات، وفي الأسواق الشعبية، وفي ملاعب كرة القدم. ولا أسهلَ من إثارةً البعد المذهبيّ في معركةٍ من هذا النوع، وفي العراق المتشابك قومياً ودينياً.
خارجهُ، نظرت قلةٌ إلى عمق المكاسب من تحرير الفلوجة. الأكثريةُ سخّرت منابرَ المساجد للتضليل، وظلّت أهميةُ الانتصار في فلوجة العراق محذوفةً، ما دامَ السياقُ العامُ مذهبيّاً ومعتلاًّ، لكنّ المدينةُ تتحرَّرُ، هذا هو الأهم، وأيُّ جريمة مرتكبة لدوافع أو شعارات مذهبية لَنْ يسترَ قبحها الإعلامُ، أو الإعلامُ المضاد. وبمقدور أيّ تحقيقٍ نزيهٍ أنْ يكشفَ الوقائعَ والتفاصيل، على إنَّ معقلاً رئيسياً من معاقل الهمج سقطَ، وهو يُمهِّدُ الطريقَ نحو سقوطِ خرافة "الدولةِ الإسلاميةِ" وحصونها برمتها، إذا أحسنَ المحاربونَ في الميادين، وفي المؤسسات الأكاديمية، وفي الأذرع التنموية التصرّفَ، كما يَجِبُ، وكما ينبغي لهذه الكآبة أنْ تزولَ حصوناً وأسباباً وذهنيّات.
الفلّوجةُ واقعيّاً ورمزياً انتهت. يتبقّى النظرُ إلى تجلياتها، وما يستترُ منها في استعدادٍ للتكرار، وفي استعداءٍ للمستقبل.أردنيّاً. رفعَ متطرفونَ في مدينة معان، قبل سنواتٍ قليلةٍ لافتة، نصُّها: معان "فلّوجة الأردن"، تهنئُ الأمةَ الإسلامية بالفتوحات العمرية التي مَنَّ الله (بها) على الدولة الإسلامية في العراق والشام . ذَلِكَ لا يعكسُ واقعَ المدينة تماماً، ومعضلاتها الكثيرة، وإهمال الدولة فيها، بالقدرِ الذي يشيرُ فيه إلى وجودِ جيوبٍ، مستعدّةٍ، وطامحةٍ للدوْر نفسه، ويكفي أنْ تُعلنَ مجموعةٌ صغيرةٌ من الإرهابيين هذا الكابوسَ في أيِّ مكان، ليتخيّلَ النَّاسُ فيه المصائرَ، فيما لا تفهمُ الدولُ والحكوماتُ الرسائلَ، عندما تبدأ بالعلاجِ السريع، بما لا يُعالجُ الداءَ المزمنَ والمتجذِّرَ في أكثر من تربةٍ في الحقل الكبير.
من بلادنا، خرجَ دواعشُ، انتحروا في سورية والعراق، وقتلوا أبرياءَ من جيراننا. عرّابهم الزرقاويُّ، الذي احتفت به جماعةُ "الإخوان المسلمين". ولا مِنْ مفاجأة أنّ جيوبَ التدعيشِ منتشرةٌ في الأردن، وقد واجهَ الجيشُ الأردنيُّ محاولاتِ اختراقٍ كثيرة على الحدود الشمالية والشرقية، ثم في مدننا، ولا تزالُ المواجهةُ قاصرةً في التصدي لهم في المجتمع. في الجامعات. في المساجد. في بؤرٍ، تستقوي بالتكوينات الاجتماعية. وفي خطابٍ دعاةٍ، يدَّعونَ الدعوة، كسواتر ترابية، نحو احتلالٍ مساحاتٍ جديدة، وفلّوجاتٍ تنتحر.
- باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.