ثقة البرلمان بالحكومة ضعيفة ، فقد انقذتها اربعة اصوات فقط من السقوط ، بعد ان تلقت ضربات انتقادية غير مسبوقة ، وهي - بالطبع - نتيجة متوقعة ، فالشارع الذي استلهم من نماذج التغيير في المنطقة "حراكه" باتجاه المطالبة بمزيد من الاصلاح كان حاضرا في المشهد ، ومحاولات تبييض الصورة "البرلمانية" التي جرحتها واقعة الثقة بالحكومة السابقة ، وأصابتها بمزيد من الرضوض تصريحات الدكتور البخيت ، بامكانية حل البرلمان (نفاها لاحقاً) وجدت صداها داخل أروقة المجلس ودفعت بعض النواب الى "الرد" بقسوة على بيان الحكومة ووعودها ، في رسالة فُهم منها ان "الروح" عادت الى السلطة التشريعية ، وبأن زمان "مجاملة" الحكومات ومداراتها ولى بلا رجعة.
هذا بالطبع جزء من الصورة ، ولا يمكن ان تكتمل الا اذا استذكرنا اجزاء اخرى ، منها ان الحكومة اصلا - ووفق استطلاعات الرأي الاخيرة - لم تحز الا على نسبة %60 من أصوات المستطلعين ، فيما لم يستطع مجلس النواب ان يعيد ثقة الشارع به حتى بعد التصويت على الثقة ، بدليل ان الذين خرجوا في مظاهرة "الجمعة" رفعوا شعارات تطالب بحله ، زدّ على ذلك ان ردود الحكومة على "السقف" الذي وصلت اليه مطالبة المحتجين قد دفعتهم ايضا الى رفع سقف مطالبهم بشكل واضح ، مما يعني أننا امام حالة جديدة تبدو فيها صورة الحكومة مهشمة والثقة بها - شعبيا ونيابيا - ضعيفة ، كما تبدو فيها صورة البرلمان ليست افضل حالا من ذلك ، وصورة المحتجين الذين لم يلقوا بعد "لافتات" الاحتجاج مثيرة لمزيد من الهواجس والاسئلة.
ايضا ، لا يمكن تجاوز اطار الصورة وخلفيتها ، فقد تباطأت الحكومة في "خطواتها" تجاه تنفيذ الاصلاح ، وتعمدت عدم وضع "برنامج" زمني محدد لاكمال هذه المهمة ، وارسلت اكثر من رسالة غير مفهومة للشارع الذي يبدو ان "مطالبه" تتصاعد ، كما ان عدم ثقته بما يطرح من حلول في ازدياد ايضا ، ورغم ان ثمة اصوات "برلمانية" حاولت "اختطاف" مطالب المحتجين على أمل ان تكون القبة البرلمانية بديلا "للشارع" الا ان هذه المحاولات ظلت محدودة وغير مؤثرة ولا تحظى على ما يبدو بتوافق نيابي أو رغبة حقيقية في رفع سقوف "الاصلاح" بما يناسب ما يظهر على لافتات المحتجين وما تردده حناجرهم.
في سياق هذا المشهد العام ، يتوقع ان تشهد خطوط الاتصال بين الحكومة والبرلمان ، وبينهما وبين الشارع مزيدا من الانسدادات ، وهذا يعني ان تأثير السلطتين التنفيذية والتشريعية قد يتراجع لحساب قوى المجتمع التي تطالب "بالتغيير" ، وهي مسألة خطيرة يفترض الانتباه اليها ، اولا على صعيد الحكومة التي يجب عليها ان تتحرك سريعا باتجاه اقناع الرأي العام "بخطة" تحول ديمقراطي حقيقي ومضبوط ببرنامج زمني محدد ، ومتقدم ايضا على ما تطرحه المطالبات التي اعتقد انها اصبحت معروفة جدا ، وثانيا على صعيد البرلمان الذي يمكن ان يضغط باتجاه هذه "المبادرات" والحلول السريعة ، وباتجاه الخروج من النقد النظري للحكومة الى دائرة "العقل" والشراكة ، لا سيما وان لدى البرلمان "ملفات" مسكوت عليها منذ سنوات ، ويمكن ان يخرجها من "ادراجه" في هذا التوقيت الصعب اذا أراد ان يقنع الناس بأن روح التغيير قد وصلت اليه وحركته ايضا.
باختصار ، تبديد حالة "غياب" الثقة أو تواضع رجتها بين المؤسسات الرسمية وبينها وبين الناس ، تحمل اشارة "خطيرة" ويفترض ان نعالجها بارادة "التحول نحو الديمقراطية" بأسرع ما يمكن ، ومرحلة التحول هذه تستوجب ان نتصرف بمنتهى الحكمة والصدق والصراحة ، وبعيدا عن التشكيك والالتفاف والتأجيل ومضغ الوقت ، لأن كل ما يمكن ان نفعله في غياب الثقة لن يترتب عليه الا مزيد من الاحتجاج والاحتكام الى "الشارع" وهذه نتيجة لا نريد ان نصل اليها.. ونتمنى أن لا نهرب اليها.
الدستور