غرباء في أمكنة مألوفة

غرباء في أمكنة مألوفة

 

ليس بالضرورة أن يكون الغرباء أشراراَ ليكونوا مفزعين، وليس شرطاً أن تكون الأمكنة حدائق رائقة لتكون مألوفة. ولكن هذا ما حصل فعلاً؛ وجدتني في حديقة رائقة، مليئة بالغرباء الأشرار، الذين تنافسوا بلطف بالغ في إهدائي مختلف صنوف الأسلحة الشخصية، ومحاولة تدريبي على استخدامها. وفي مرحلة تالية، راح يجهدون في البحث عن أهداف ملحة لي، يمكن أن أستخدم في التعامل معها الأسلحة التي أهدوني.

 

لم أكن مولعاً بالأسلحة، لكن الحاجة بالتآلف مع الغرباء، الذين أحاطوا بين كل جانب، جعلتني أتعاطى إيجاباً مع محاولاتهم «مساعدتي» في إقامة علاقة كفؤة مع الأسلحة الفتاكة. وهذا بالطبع، أنشأ فعلاً مثل تلك العلاقة، التي بررتها لنفسي، في البداية، باعتبارها ضمانة لي ضد الغرباء أنفسهم، طوال وجودي معهم، في تلك الحديقة الرائقة.

 

لاحظت أن «غرباء في أمكنة مألوفة» لم يكن التكييف الذي يقبلونه لتوصيف الواقع الذي عشته معهم في تلك الحديقة؛ وكانوا بطريقة وبأخرى يشجعونني على النظر إلى لقائي بهم بوصفه لقاء أناس لطيفين في أماكن موحشة. وكان يحرجني أنهم كانوا لطيفين معي، ومتسامحين، فعلاً في أكثر من لحظة حرجة، لا تغتفر. كانت أولها كانت رصاصة انطلقت عشوائياً فأصابت أحدهم..

 

لم يغضبوا، ولم يجردوني من سلاحي. وبالعكس من ذلك صفقوا لي بحرارة مشجعين، بما فيهم ذلك الشخص الذي أعطبت قدمه برصاصتي. وشجعوني أن أعاود الكرّة، لكن بتركيز وقصد هذه المرة، ومع انتقاء واع للهدف التالي..

 

ولم يبدوا أية رغبة في عصياني حينما أشهرت سلاحي بوجوههم، وأمرتهم أن ينصاعوا لأمري، وراحوا يهللون لي، ولأمري، مبدين استعداداً للتفاني في انفاذ كل ما أأمر به، وتحمل أسوأ نتائج أفعالي وقراراتي، بطيب خاطر.

 

وهنا، مع تفاقم إحساسي بالسيطرة والسلطة، اكتشفت أن الحديقة، التي كان كل من فيها يدين بالولاء، ليست المكان المناسب لإظهار سلطتي وقدرتي. لذا، فكرت بالخروج بهم إلى الحي المجاور لاستعراض سلطتي الطارئة. وكان سهلاً أن أفعل ذلك، فالمكان قريب، وسكانه مسالمون، لا يخطر ببالهم اقتناء الأسلحة، وكانوا يتطيرون من التواجد مع غرباء في أمكنة مألوفة، ولهذا كانوا يتجنبون دخول الحديقة المجاورة لبيوتهم، وينسجون الأساطير المرعبة حول ما يحدث فيها.

 

وفي الواقع، كنت وصلت إلى قناعة بأن الأشياء المرعبة، لا تحصل في الحديقة، بل عندهم، في حيهم المسالم. وفعلت؛ خرجت بجماعتي إلى الحي، وبدأت إطلاق نار عشوائي على البيوت والنوافذ. وبعد وقت قصير اكتشفت أنني أطلق النار وحدي، من بين كل جماعتي من الغرباءء الأشرار. وبعد وقت قصير آخر، أدركت أنني كنت وحدي، وأن ليس في المكان شرير آخر غيري.

 

بالطبع، تمكن مني أحد سكان الحي المسالم، ثم وجدت نفسي في غرفة تحقيق يستجوبني فيها رجل أمن، كنت زاملته في أثناء مراحل تعليمي الأولى في المدرسة. وكان ينفجر بي بين الفينة والأخرى صائحاً:

  •  -ماذا دهاك! ما الذي جرى لك! أجنت..!؟

 

وكنت في الرد أؤكد له أنني لم أجن فعلاً، لكني مجرد إنسان وجد نفسه مع غرباء في أمكنة مألوفة. ولم يكن هذا رد يقنعه، ومع ذلك راح يبدي لطفه، مؤكداً أنه يريد مساعدتي، خصوصاً أن الحادثة لم تسفر عن إصابات أو خسائر مادية مهمة. ولأحظى بهذه المساعدة عليّ أن أقبل بالعمل معه، ومساعدته في القبض على الأشرار، الذين رأيتهم في الحديقة، وأولئك الذين يرتعون خارجها..

 

وكنت أوشكت على قبول عرضه ممتناً، لولا أنني أدركت في لحظة، أنني وهو غرباء في غرفة استجواب مألوفة!

 

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك