عن قانون الانتخاب المنتظر .. بلا تعقيد
لست ممن يميلون للبساطة والتبسيط، بيد أنني ألحظ مع ذلك، ميلاً متعاظماً لدى أوساط عدة، لـ»تعقيد» مسألة التوافق على قانون انتخابي جديد، لكأننا أمام «رياضيات ولوغاريتمات» معقدة، لن يفكك طلاسمها سوى الراسخون في العلم.. المسألة أيها السادة، أبسط من ذلك بكثير.. كل ما يتعين علينا فعله، هو أن نجيب على رزم الأسئلة التالية: الرزمة الأولى، هل نريد برلماناً قوياً، سياسياً وحزبياً وبرامجياً، أم أننا استمرأنا البرلمانات الضعيفة المشرذمة، برلمانات الخدمات والحارات والعشائر والحمائل والموظفين السابقين ورجال الأعمال الهابطين بالبراشوت على مسرح السياسة والاقتصاد. إن كنا نريد برلماناً سياسياً قوياً، فالقانون الذي سيأتي بها هو قانون النسبية الكاملة أو المختلطة، قانون الصوت الواحد غير المتحوّل، جرّبناه وقد جرّ علينا الخراب والبلاء والابتلاء.. لنقرر سياسياً بشأن صورة البرلمان الذي نريد، وعندها لن نعدم الوسيلة (القانون) للحصول على ما نرغب.. القرار السياسي أولاً.. الإرادة السياسية أولاً.
الرزمة الثانية، هل نريد برلماناً ممثلاً بصورة عادلة للأردنيين جميعاً، برلماناً ينهض على القاعدة الدستورية التي تعظم المساواة بين المواطنين، وتفعّل قانون المواطنة ومنطقها. إن كان جوابنا نعم، فهناك ألف طريقة وطريقة لردم فجوات التمثيل من دون إثارة مشاكل أو استثارة حساسيات.. يمكننا أن نعتمد حزمة من المعايير لتوزيع المقاعد والدوائر.. يمكننا أن نقلص الفجوة في تمثيل المنابت والأصول.. يمكن للتفاوت الجغرافي والتنموي بين منطقة وأخرى أن يتقلص، وللنساء أن يحظين بتمثيل يليق بالأردنيات، فالتمثيل الحالي والسابق لا يليق بهنّ.. ماذا نريد، هذا هو السؤال الذي لم تجب عليه الدولة الأردنية، ومن دون الإجابة عنه، سيظل قانون الانتخابات «لغزاً» عصياً على التفكيك.
الرزمة الثالثة من الأسئلة، هل نريد انتخابات حرة ونزيهة ومتخففة من شبهة التزوير والتدخل الحكومي وشراء الأصوات ونقلها.. إن كان الجواب نعم، فلنذهب إلى اقتراح إنشاء مفوضية عليا مستقلة للانتخابات، تشرف على العملية من ألفها إلى يائها، وتتشكل وتعمل باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية.. لنذهب إلى تحديد سقف الإنفاق المالي على الانتخابات.. لنقرر شكل ورقة الانتخابات وشروط المعزل الأنتخابي، ولنعتمد واحدة من الطرق الشفافة لتصويت الأميين.. لننقح السجلات ولنعتمد أحدث ما توصلت إليه من تقنيات وفنيّات في مجال إدارة العملية الانتخابية وتقنياتها.
إن كنا نريد انتخابات نزيهة، تستحوذ على ثقة المواطن والحزبي، الناخب والمرشح، الفائز والراسب، فلنمنح حق الطعن في صحة العضوية للقضاء وليس للبرلمان، ولنجعل نتائج الانتخابات، شفّافة ومصداقة من دون غمز ولمز وهمس وطعن وتشكيك وتشويه.
الرزمة الرابعة من الأسئلة، هل نريد برلماناً قادراً على استعادة ثقة الناس وقناعتهم بدوره.. هل نريد انتخابات جاذبة لكل المواطنين، فيقبلون على صناديق الاقتراع بأعلى النسب الممكنة.. إن كان الجواب نعم، فلنعمل بكل ما سبق ذكره، ونضيف إليه، إعلاناً سياسياً والأفضل (دستورياً)، بأن الحزب/ الائتلاف/ التكتل الذي سيأتي بأعلى الأصوات والمقاعد، هو من سيكلف بتشكيل حكومة مرحلة ما بعد الانتخابات، أو على الأقل، يعطى الفرصة الأولى لفعل ذلك.. عندها وعندها فقط، يصبح للانتخابات أهمية، وللصوت قيمة، ويتدفق الناس من كل فجّ عميق على صناديق الاقتراع.. عندها وعندها فقط، ستخرس الألسنة التي تنهش السلطة الدستورية الأولى في البلاد: السلطة التشريعية، أو هكذا يجب أن تكون.. عندها وعندها فقط، سنودّع فصلاً مأساوياً في حياتنا النيابية والديمقراطية، فصل تحوّل فيه النواب إلى عبء بدل أن يكونوا ذخراً، وباتوا جزءا من المشكلة بدل أن يكونوا جزءا من الحل.
ماذا نريد من البرلمان المقبل، أو أي برلمان يريد؟.. سؤال سياسي بامتياز، يبحث عن إجابة سياسية بامتياز، تصدر عن صنّاع القرار السياسي في البلاد في المقام الأول والأخير.. بعدها ليُعطى الخبز للخباز.. ليترك للخبراء والخياطين أو «الترزيين» وفقاً لتعبير إخواننا المصريين، ليفصلوا لنا «الثوب الذي نريد.. نحن نوفر القماشة، ونترك لهم الباقي.. المسؤول السياسي يقرر، والخبير «يطرز».. المسألة أبسط مما يُظن.. المسألة معقدة الآن لأننا لم نحسم أمرنا بعد، لا نعرف ماذا نريد ولا أين نتجه.
ذات مساء في أكسفورد، احتدم الجدل بيني وبين خبير لاتيني في شؤون الانتخابات وتحولت مائدة العشاء إلى ساحة لتقاذف الأفكار والمخاوف والتحسبات والصيغ والمقترحات.. إلى أن فاجأني بعبارة حسمت الجدل: قل أي برلمان تريد وأنا أعطيك القانون الذي سيأتيك به.. وها أن بعد خمس سنوات أو أزيد قليلاً على ذاك اللقاء، أكرر من وراء صديقنا: قولوا لي أي برلمان تريدون، ونحن نعطيكم القانون الذي سيأتي به.
الدستور