عن تنقلاتنا و«معاييرنا المزدوجة»

عن تنقلاتنا و«معاييرنا المزدوجة»
الرابط المختصر

ما أسهل أن ينتقل الواحد منّا إلى مواقع مجادليه... يسري ذلك علينا كأفراد وأحزاب وجماعات وحكومات ودول، عرباً وأعاجم... وفي حقل السياسة المحلية والإقليمية والدولية، ثمة نماذج وأمثلة، توضح تماماً ما أريد قوله، ولنبدأ من الساحة الدولية.

قبل أيام، تقدمت روسيا بمشروع قانون للعون الإنساني شرق وجنوب أوكرانيا، يتضمن ضمن ما يتضمنه، ممرات إنسانية لإيصال الغذاء والدواء للمناطق المعزولة... جرى ذلك تزامناً مع مناشدات من القوى المحسوبة على موسكو في أوكرانيا، بفرض مناطق حظر جوي، لمنع حكومة كييف من استخدام تفوقها الجوي في الهجمات التي تشنها على القوى الانفصالية، أو المحسوبين على موسكو.

ألا يذكِّركم ذلك، ببعض من فصول الأزمة في سوريا، وكيف ظلت موسكو تعارض مشاريع القرارات الدولية بشأن الممرات الإنسانية ومناطق حظر الطيران والمناطق الآمنة؟... ندرك اختلاف الأزمتين بلا شك، لكن «المعايير المزدوجة» لجميع الدول من دون استثناء، تجعل المرغوب هنا، مستنكرا هناك... وما يبدو عادلاً ومشروعاً وإنسانياً في هذه الدولة، يصبح مؤامرة متشعبة الأذرع في دولة ثانية... إنها المصالح، ولا شيء غيرها... والمؤسف أن كثيرين منّا، لا يجدون غضاضة في الدفاع عن «التناقض» في المواقف، ودائماً ثمة حجج وذرائع جاهزة للاستخدام.

أمس قرأت مقالاً في إحدى الصحف الغربية، يأخذ على الولايات المتحدة هجومها الشرس على الانتخابات السورية، باعتبارها انتخابات تتم بغياب جزء من الشعب، وإقبال ضعيف على الصناديق ومن دون منافسة حقيقية... كاتب المقال الذي يوافق على هذه التوصيفات، رأى أن الانتخابات المصرية، التي أيدَّتها واشنطن ورحبت بها، اتَّسمت بسمات مشابهة تقريباً، فالإقبال كان أضعف، والمنافسة كانت معدومة بدلالة النتائج، أما السياق العام، من غياب الحريات وتمكين مختلف المكونات من المشاركة، فالمشهد لا يختلف نوعياً في التجربتين... بيد أن الانتخابات «جائزة «هنا وتعد خطوة للأمام، وهي «مرذولة» هناك، ولا تزيد عن كونها «صفراً كبيراً» على حد وصف جون كري.

بالانتقال إلى الإقليم، نرى دولاً عربية، تدعم النظام المصري الجديد،، ويعزز الموقف السياسي بدعم مالي ومعنوي لا حدود له... لكن المشهد ينقلب رأساً على عقب، عندما يتصل الأمر بإخوان سوريا وإسلامييها... هنا يجري الحديث عن «ثوار» و»معارضة وطنية» و»ممثل شرعي وحيد للشعب السورية... هنا لا مشكلة بدعم «داعش» ذات يوم، و»النصرة» من بعد، و»حالش» و»حازم» و»جبهة ثوار سوريا» في كل وقت، مع أننا أمام تسميات متعددة للمسمى ذاته، لا أكثر ولا أقل... إنها المعايير المزدوجة مرة أخرى، إنها مصالح الدول وحساباتها... وما ينطبق على الأزمة السورية، انطبق بشكل كبير على الأزمة الليبية، إسقاط القذافي كان الأولوية، التي تستوجب وتُملي دعم كل خصومه، بمن فيهم ممثلو «الباطل» نفسه، وفرسان «الفوضى الخلاقة» ذاتها.

وما زلنا في سياق الإقليم، فالذين سطَّروا مجلدات بهجاء السلطة الفلسطينية، ووصف تنازلاتها المشينة بأقذع الصفات، وتخوينها وتكفيرها، ونعتها بما فيها وما ليس فيها، هم أنفسهم اليوم الذين لا يتحملون أية ملاحظة انتقادية على اتفاق المصالحة الوطنية الأخيرة، وحكومة الوفاق الوطني التي وصفناها ذات مقال (أو اثنين) بأنها مجرد «تعديل وزاري» لا أكثر ولا أقل... السبب أنهم هؤلاء انتقلوا من موقع الاعتراض على السلطة، إلى موقع المشاركة فيها، وهم يفترضون بغريزتهم السياسية والعقائدية، أن على الجميع أن يستدير حين يستديرون، ولمَ لا، فهم «الحق» بمواجهة «الباطل»، وحيثما يكونون، تكون كل «الشرعيات»: الوطنية والثورية والدينية والشعبية».

في الشأن المحلي، هالنا ما قيل بوصف ظاهرة «زمزم»، مع أن لدينا الكثير من التحفظات والأسئلة المفتوحة عليها، وهالنا أكثر ما قيل بصدد «مؤتمر إربد» والمراقب العام الأسبق الأستاذ عبد المجيد الذنيبات: «مجرد عضو أسرة»، «حمولة باصي جت»، «القافلة تسير...»، «سياحة داخلية»، «لا مكان للتظلِّم والإصلاح إلا عبر الأطر والقنوات».

ينسى من يُدلي بهذه التصريحات، إنها جميعها من دون استثناء، سبق أن استخدمت ضده وفي وصفه، من قبل خصومه ومجادليه من خارج الجماعة.... ينسى أن بعض هذه العبارات، هي ذاتها التي سبق لبعض وزراء الداخلية، في زمن الأحكام العرفية، أن رددوها بوصف الأحزاب آنذاك، وهي ذاتها الحجج في الهجوم على الحركة الإسلامية لمقاطعتها الانتخابات.

أحزاب ليبرالية وديمقراطية، لا تتوقف عن الجأر بالشكوى من غياب الديمقراطية والليبرالية السياسية لدى الحكومات، وضعف شفافيتها وضيق صدرها بالتداول السِّلمي على السلطة، لا بأس... ولكن حين يجد قادة هذه الأحزاب، من يتحدى الأمين العام، ويطالب بمزيد من الشفافية والبوح عن موارد الحزب وعضويته وعدم تجدد الدماء في عروق قيادته، نراه يستعير من الحكومات، كل ما قيل ويقال بهجاء هذه الأفكار والقيم، وتبرير غيابها أو تغييبها، بدعوى «الخصوصية» أو «الاستثناء» الأردنيين... مرة أخرى، أنها المعايير المزدوجة والحسابات الضيقة والأنانية.

وثمة عشرات الأمثلة التي لا يتسع المُقام ولا المَقال للإتيان عليها... ولعل أبشعها، اصطفاف مناضلين ومثقفين غيورين على الحرية والديمقراطية في الأردن، خلف أنظمة قمعية وشمولية وديكتاتورية في دول مجاورة وبعيدة تارة باسم العداء للإمبريالية والخصخصة، وأخرى باسم المقاومة والممانعة... إنها المعايير المزدوجة، البالغة حد الشرخ النفسي، أو «الشيزوفرانيا» الكفيلة بإفراغ خطابنا من أي مضمون ذي صدقية على الإطلاق.

هل رأيتم كم من السهل على الواحد منّا، فرداً كان أم جماعة أم حكومة أن ينتقل من موقع إلى موقع، ومن النقيض إلى النقيض، وأن يقول الشيء ويأتي بغيره، وأن يحلل ويحرِّم ما طاب له؟!!

الدستور