عن "الواجهات العشائرية"
قفز مصطلح "الواجهات العشائرية" إلى صدارة أولوياتنا الوطنية، وبات أمر "تفويضها" او "استرجاعها"، مندرجاً في سياقات نظرية الأمن الوطني، وطغت انباء التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات و"تقطيع الطرق" المندرجة تحت هذا العنوان، على التحركات الاحتجاجية، المطلبية منها والسياسية، ومن المرجح أن تتفاقم هذه القضية خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، وأن تنضم عشائر أخرى إلى قائمة المطالبين بـ"التفويض".
قبل عامين، أزيد قليلا أو أقل قليلا، نفى وزير للداخلية وجود شيء أسمه "واجهات عشائرية"، وقال أن هذه الأراضي هي "أراضي دولة"، أو باللغة السائدة "أراضي ميري"...اليوم، يتحدث المسؤولون بلغة مختلفة، إنهم يخطئون زميلهم السابق، أو الأسبق، ويقرّون بوجود شيء أسمه "واجهات عشائرية" وينقلون الوعود والتعهدات بإعادتها إلى أصحابها، ما شجع المزيد من العشائر على "استلال" كل ما في جعبتها من وثائق تثبت أحقيتها في هذه الواجهات، ويبرر تجديد المطالبة بها.
على أن مشكلة هذه "الواجهات العشائرية" أنها غير محددة بدقة، ولا وضع قانونياً لها، وقد جرى التصرف ببعض أجزائها، بيعاً وشراء وتأجيرا على امتداد السنوات والعقود الفائتة، من الحكومة إلى القطاع الخاص والشركات والمنشآت العامة ومؤسسات النفع إلى غير ما هنالك، وسوف تحدث فوضى شاملة، اجتماعية واقتصادية، إن جرى الأخذ بنظرية "عودة الواجهات إلى نصابها" أو بالأحرى إلى أصحابها الأصليين.
لا ندري ما الفاروق في الوضع القانوني بين "الواجهات العشائرية" و"الأراضي الميري"، ونأمل أن يرشدنا المختصون إلى طريق لفهم هذا الفارق...لا ندري أين تبدأ واجهات العشائر وأين تنتهي، أين تبدأ الأراضي الميرية وأين تنتهي...لا ندري كيف سيكون التعامل مع هذه الأراضي، هل ستبقى فضاء مفتوحاً تتحرك فيه العشائر؟...هل تتحول إلى "وقفيّات" كما حال مليكات بعض العائلات والحمائل في فلسطين على سبيل المثال؟...هو توزع الأراضي على أبناء هذه العشائر، كيف وبأي نسبة، للذكور فقط، أم للذكور والإناث، للذكر مثل حظ الأنثى أم ضعفه...نحن لا نعرف كيف ستؤول هذه الملكيات ولا كيف سيجري التصرف بها، ومن له الحق التصرف، وبأي قدر ونسب وحدود إلى غير ما هنالك، وما الإطار والمستند القانوي لكل هذا وذاك وتلك.
في ظني أن الأصل في "الواجهات العشائرية" إنما يعود إلى زمن البداوة والترحال والرعي، لكل عشيرة مجالها الحيوي، دون أن يكون مهماً جداً تحديد هذا المساحة بدقة، أو تسجيلها بـ"ورقة طابو"، الكل يملك كل هذه الأراضي، ولا أحد يملك فعلياً شيئاً منها...الأصل أن هذه الأراضي كانت مكرّسة للانتفاع فقط، ولم يكن أمر "الملكية الفردية" أو حتى "الملكية الجماعية" مثار نقاش أو موضع تساؤل، الأمور تغيرت اليوم، بل وتغيرت كثيراً.
فمن جهة، لم يعد لدينا بداوة مترحلة، العشائر توطّنت واستوطنت واستقرت، وانتقلت إلى أنماط أخرى من العمل والحياة والسكن، إنها الحداثة التي ضربتنا جميعاً بأجنحتها..ومن جهة ثانية، لم تعد الأراضي كما كانت، فما كان منها صحراء قاحلة لا قيمة له، أصبحت له قيمة، بل وقيمة سوقية عالية جداً في بعض المناطق هذه الأيام، وبات التصرف بهذه الأراضي وامتلاكها، أمر يُحدث فرقاً في حياة الفرد والمجموع.
قضية الواجهات العشائرية، قضية قديمة، لكنها الحديث بشأنها يتجدد هذه الأيام، وبطريقة مثيرة الدهشة حقاً وتستحق التأمل...ثمة من يعتقد على ما يبدو، أن الدولة في حالة تراجع، وأن العشيرة في حالة تقدم، وأن ما لم يكن ممكناً الحصول عليه بالأمس، قد بات ممكنا استرداده اليوم...إنها لحظة تراجع "سيادة القانون" وتقدم منطق "القانون الخاص" أو "العدالة غير الرسمية"، وهي لحظة تتوازى وتتساوق، مع تراجع الدولة عموماً وتقدم العشيرة، تراجع الهوية الوطنية وانتعاش الهويات الفرعية، في كل شيء، في كل ميدان وحقل ومحفل، فلمَ تكون مسألة الأراضي والملكيات والواجهات استثناءً ؟
وبفرض أن الدولة سترضخ لهذه المطالب، وتتراجع عن موقف وزيرها السابق، فإن السؤال حول كيفية التصرف بهذه الأراضي، وتوفير "التعويضات" عن الاستملاكات التي قامت عليها، سيفتح الباب أمام منازعات قضائية وعنف اجتماعي ومشاجرات عشائرية وأزمات مالية واقتصادية، نعرف أن لها أول، بيد أن أحداً لا يعرف ولن يعرف، كيف سيكون لها آخر.
"قنبلة موقوتة" أخرى تنفجر بين أيدينا، وتثقل أجندتنا الوطنية، ودائما بسبب سوء إدارتنا وتخلي حكوماتنا عن أدوارها واستقالتها من صلاحياتها، وفشل مشروعنا في بناء دولة المواطنة والمؤسسات وسيادة القانون وتكافؤ الفرص...هي قصة أخرى تحكي فشل مشروعنا الإصلاحي الذي ترددنا في إنجازه طويلاً، وها نحن نكتشف متأخرين كم هي باهظة كلفة التردد والمراوحة والدوران حول الذات.
مركز القدس