عندما تفسد السلطة الرابعة

عندما تفسد السلطة الرابعة
الرابط المختصر

كنت أعتقد أنني لا أواجه ما يواجهه زملائي في مهنة الصحافة من قيود على حرية الإعلام، لأنني أغطي قضايا الإعلام وبالتالي فإن مصادر معلوماتي، أي الصحفيين، أكثر انفتاحا وشفافية من غيرهم من المصادر، فليس من المتوقع أن يمارس الصحفيون ما يمارسه الآخرون، كالمسؤولين والسياسيين، من تعتيم على المعلومات.

وكنت أعتقد أيضا، من خلال القضايا والأحداث التي غطيتها في برنامجي الإذاعي المتخصص “عين على الإعلام”، أن البيئة المحيطة بالعمل الصحفي، مثل التشريعات، السياسات الحكومية، المؤسسات الاجتماعية والدينية، مصادر تمويل وسياسات تحرير المؤسسات الإعلامية، وعلى رأسها جميعها التدخلات الأمنية، هي كل ما يقيد العمل الصحفي ويحد من حرية الإعلام. وتتجلى هذه العوامل في التعتيم على المعلومات وغيابها، في حبس الصحفي أو تغريمه ماليا على ما يكتب، في الاعتداء اللفظي والجسدي على الصحفي والتهديد وتكسير أو مصادرة معداته، وأخيرا في الرقابة الذاتية التي تنمو مع نمو الرقابة والقيود الخارجية.

إلى أن جاءت حلقة يوم الاثنين الماضي لتحدث تغييرا جوهريا في فهمي لواقع الحريات الإعلامية في الأردن.

تصريحات رئيس هيئة مكافحة الفساد، سميح بينو، عن تقاضي كتاب صحفيين مبالغ تصل إلى 135 ألف دينار سنويا من مؤسسات رسمية مقابل الكتابة دفاعا عنها أو تجميلا لصورتها، لم تكشف عن جديد وإنما قدمت تفصيلة واحدة وهي المبلغ الذي يتقاضاه أحد الصحفيين. وحين طلب منه ذكر اسماء هؤلاء الصحفيين، أجاب بأن “الشمس لا تغطى بغربال”.

قضية فساد أو إفساد الصحفيين، وهو موضوع حلقة “عين على الإعلام” الماضية، ليس جديدا، حيث تناولته في حلقات سابقة. ويعود أول ما قرأته عن هذه الظاهرة في الأردن إلى عام 2003 خلال بحثي لرسالتي الماجستير عن التغطية الإعلامية للحرب في العراق، حين كتب الصحفي سلامة نعمات عن فريقين من الصحفيين الأردنيين، الأول “يقبض” من المركز الإعلامي التابع للسفارة الكويتية في الأردن والثاني يقبض من صدام حسين عن طريق السفارة العراقية. لكن المعلومات عن أسماء وأرقام كانت، وما تزال، شحيحة.

أهمية تصريحات بينو جاءت من المبلغ الكبير الذي تضمنه التصريح، والأهم أنها صدرت من رئيس هيئة مكافحة الفساد، أي أنها معلومة دقيقة من مصدر رسمي ومطلع. واعتقدت في حينها أن “ملف فساد الصحفيين” قد فتح وأن التصريح ما هو إلا إنذار أطلقته الهيئة للإعلان عن بدء حساب الفاسدين والمفسدين. لكن هيهات. اتصلت بالسيد سميح بينو الذي رفض المشاركة في البرنامج الذي يبث على الهواء مباشرة ورفض الإدلاء بتصريح رسمي أو حتى إعطاء أي معلومة أو اسم واكتفى “بدردشة” هاتفية حاولت من خلالها فهم ما يمكن فهمه.

قال لي أن الأولى بالصحفيين التحقق والبحث في هذه القضية ومعالجة شؤونهم بأنفسهم. فسألته عن اسماء المؤسسات الرسمية التي تدفع مبالغ كبيرة كهذه سنويا للصحفيين، وعما إذا كانت الهيئة تحقق في شبهة فساد في مؤسسات تهدر أموالا عامة تدفعها لصحفيين ليكتبوا دفاعا عنها. فجاء جوابه مخيبا لآمالي: “حاليا لا يوجد، لكنني أنوي ذلك لاحقا”، وبالطبع لم يذكر اسم أي من هذه المؤسسات.

فكرت بمقولته “الشمس لا تغطى بغربال”، وكررها في حديثنا الهاتفي عندما قال أن الأسماء ليست سرا وأن الصحفيين يعرفونها. وبدأت بالاتصال مع عدد من الصحفيين الذين اعتقدت أنهم قد يعرفون شيئا ما. وبالفعل ذكر لي بعضهم أسماء لصحفيين يتقاضون من مؤسسات رسمية مثل وزارات، هيئات، مجالس عليا، دائرة المخابرات العامة، الديوان الملكي، البنك المركزي، وأعضاء مجلس نواب، مبالغ تقل وتزيد عن مبلغ الـ135 ألف سنويا تحت مسمى “مستشار إعلامي”، مقابل أن يكتب مقالات دفاعا عن الجهة الدافعة أو لتمويل مواقع إلكترونية إخبارية تدافع عن جهة ما وتهاجم أخرى.

وبالطبع رفض أي من الصحفيين الذين أفادوني بهذه المعلومات الإدلاء بها في البرنامج الإذاعي، حتى لو بدون أسماء. ولم يعترف بوجود فساد بين الصحفيين سوى الرئيس السابق للمجلس التأديبي في نقابة الصحفيين، عمر عبندة، الذي قال عموما أن “قوانين وأنظمة النقابة التي تحاسب على الهبات والرشاوى لو طبقت فعلا لفصل أكثر من ثلث أعضاء النقابة”.

إعادة النظر في مدونة السلوك الحكومية مع الإعلام كان أول وعد أطلقته حكومة البخيت، ونفذته، “احتواء” أو “إفسادا” للصحفيين الذين احتجوا على “حرمانهم” من امتياز العمل كمستشارين للمؤسسات الحكومية، إضافة إلى الاشتراكات والإعلانات التي تشكل جزءا مهما من تمويل المؤسسات الإعلامية.

وكان لأعضاء مجلس النواب مساهمة نوعية في إفساد الصحفيين من خلال تكليف من عرف منهم بتغطية مجلس النواب بإدارة حملاتهم الانتخابية أو على أقل تقديم خطط لحملات انتخابية مقابل مبالغ مقطوعة. وبالطبع فإن للقطاع الخاص دور، وإن كان بمستويات أبسط، مثل دعوات الغداء والعشاء وتوزيع أجهزة الخليوي وغيرها من الأجهزة الإلكترونية، إضافة إلى إرسال باقات الورود في المناسبات الخاصة.

وجاء تقرير مركز حماية وحرية الصحفيين عن حرية الإعلام في الأردن لعام 2010 ليوثق ظاهرة “الفساد بين الصحفيين” بالأرقام، حيث أفاد بأن 86% من الصحفيين المستطلعة آرائهم أقروا بانتشار الواسطة بين الصحفيين، و72% من الصحفيين يقبلون الهدايا، و61% يكتبون أخباراً مدفوعة الأجر، و59% معدل انتشار الرشوة والابتزاز.

الخلاصة أن كل دعوات الإصلاح ومحاربة الفساد، وكل الوعود بتحقيقها، ظهرت كمسكنات تخفف الألم وتؤمل بالشفاء لكن سرعان ما يزول مفعولها ليبقى الألم والإحباط. وهو ما تجلى كذلك في انتخابات نقابة الصحفيين الجمعة الماضية، التي جاءت بعد اعتصامات لصحفيين مطالبين برفع سقف حرية الإعلام ووقف التدخل الأمني والحكومي، لتفرز مجلس نقابة لا يمثل أعضاؤه العشرة سوى المؤسسات الإعلامية الحكومية الثلاث، الرأي، الدستور ووكالة الأنباء الرسمية، كما يعكسون توجها سياسيا واحدا. وذلك بعد فشل المرشحين من صحيفتي الغد والعرب اليوم المستقلتين، والذين قدموا أنفسهم كتيار يهدف إلى التغيير في نقابة عرفت بانحيازها المطلق للحكومات والأجهزة الأمنية على حساب استقلالية وحرية الإعلام.