عمّان تغادر مدنيتها!

عمّان تغادر مدنيتها!
الرابط المختصر

العشوائية وسوء الإدارة والفساد أحياناً في تخطيط مدينتنا تسبب، إلى جانب عوامل أخرى، في تصدّر عمّان قائمة المدن الأغلى في الشرق الأوسط وأفريقيا، وأن تلجأ "الأمانة" إلى إغلاق المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية المنتشرة بين الأحياء السكنية عند الحادية عشرة ليلاً، رغم أنها من أصدرت رخص تشغيلها في مخالفةٍ صريحةٍ وواضحةٍ، وسنعاني مستقبلاً المزيد من أزمات الطاقة والمياه والنقل والسكن، وطغيان التخلف والتطرف بسبب إخفاقنا في تصميم مدينة عربية حديثة.

 

تتنافس مدن أوروبية بُنيت منذ مئات السنين، مثلاً، على توفير شبكة مواصلات لأبنائها بأقل تكلفة وأقصر زمن ممكن، وتسعى كذلك -بموازاة خطط التنمية- إلى إدماج المهاجرين والأقليات والمهمشين في مناطق تواجدهم، ولم يتأت ذلك إلاّ بمخطط تتشابه به جميع حواضر العالم، إذ تنحصر الأسواق وأماكن العمل والترفيه في وسط المدينة الذي يرتبط بطرقٍ تؤدي إلى جميع الأحياء السكنية، ولا تُمنح أي تراخيص تجارية على هذه الطرقات، مع السماح بفتح بعض المحلات التي تقدّم سلعاً وخدمات أساسية في كل حي.

 

تشذ أغلب مدننا العربية، وفي مقدمتها عمّان -برغم حداثتها- عن هذه المخططات العمرانية، فقد قاد الفساد وانعدام الذائقة الجمالية فيها إلى اختلاط الأسواق والشركات ومحال السهر بالبيوت والمساكن، وأن تصبح كل شوارع عمان بواجهات تجارية، ما يسبب ارتفاع قيمة العقارات، وتكلفة النقل، وحوادث السير، ومزيداً من التلوث، ويهدد "الأمن والأمان"، وكأن حال المدينة انعكاس لشخصياتنا التي تخلط الهزل بالجد فتنخفض فاعلية الفرد والمجتمع وإنتاجيتهما ويتشوه مفهوم الترفيه أيضاً، مع التأكيد أن هذه الانطباعات لا تثبتها سوى أبحاثٍ (سسيو ثقافية) معمقّة.

 

أحياء العاصمة السكنية تكتظ بالمقاهي والمطاعم والنوادي الليلية والمولات، لكنها تفتقد للمنتزهات والمكتبات العامة والملاعب الرياضية والساحات وغيرها من الفراغات الحضرية، وربما أنتج غياب الترفيه، وإمكانية التواصل الإنساني بين سكان الحي، والتنافر بين السكني والتجاري فيه، مواطناً متعصباً في رأيه، ولا يقبل التعدد والاختلاف، فحيثما انتقل في مدينته سيقع على نسخة مشوهة واحدة للعمران تناسخت في معظم المناطق!

 

ساهمت الرشى وعشوائية التخطيط في بناء 150 – 200 منشأة ترفيهية/ سياحية في الأحياء السكنية، بحسب تصريحات أمانة عمّان الكبرى، وتبدو مسألة إلزام هذه المنشآت بإغلاق أبوابها قبل منتصف الليل غير واقعية، وتخضع لحسابات لن تتأثر بشكاوى المواطنين المتكررة بسبب الإزعاج.

 

ولا تزال العقلية ذاتها تحكم استحداث تجمعات سكنية جديدة خالية من المناطق الخضراء والنوادي والمكتبات، بل تفتقر لشبكات المياه والصرف الصحي، والأسوأ من ذلك كلّه هو اعتقادنا الراسخ بأننا نعيش مدناً حديثة، بينما نحن نتجمع كتلاً بشرية غير متجانسة، وأغلبنا يعادي قيم الحداثة والمدنية، وفي المحصلة النهائية نشهد زيادة سكانية بمواطنين غير أصحاء ولا يجمعهم أي تفاعل إنساني حضاري.

 

تأسيس المدينة يتطلب توافقاً على شكل الدولة والعقد الاجتماعي، وهو ما يغيب في دولنا العربية، لذلك تفقد مدننا هوية أو طابعاً مميزاً لها، كما يستحيل الاستمرار بهذه التوسعة وتمدد البناء بلا إحصائيات وأبحاث تؤشر على مواطن الخلل وتحديد احتياجتنا التي تقام المدن لتلبيتها أساساً.

 

سوء التخطيط يكلفنا غالياً، ويشكل عائقاً أمام التنمية بشقيها: الاجتماعي والاقتصادي، خاصة مع الهجرات غير المتوقعة، وينذر بتفاقم مشاكل المواصلات والطاقة والبيئة وغيرها، والتي تؤدي إلى ارتفاعٍ دائم في أسعار العقار والنقل والخدمات رغم تراجع نوعية البنية التحتية وقِدمها. واقعٌ يبرز تفاوتاً مهولاً في الدخل بين فئات المجتمع يدفع ثمنه الفرد في ظل غياب المراكز الثقافية والترفيهية لنواجه، في نهاية المطاف، مواطناً فقيراً ومنغلقاً في آن.

 

عمّان تذوب في الازدحام والتعصب! لقد فشلنا بجدارة في بناء مدنٍ حديثة، وإنسانٍ ينتمي إلى عصره بدلاً من الهجرة إلى ماضيه أو إلى الخارج حيث يمكنه أن يعيش حاضره.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.
أضف تعليقك