على هامش "الفالانتاين"
تساهم الظروف السياسية والاقتصادية والسياق الثقافي والمعتقد الديني... في بلورة سمات شخصية مجتمع ما، هذه الحقيقة تبدو مقبولةً وسائغةً من حيث المبدأ، إلا أنّ موطن الخلل يكمن في أنّ تصبح هذه العوامل مجتمعةً مقدّساً يحذر الجميع الانفكاك منه والتخلص من نير كهنوته.
المشاعر وتلقائية الانفعالات ومعرفة الجسد والهوية الجنسية... تعدّ جميعها من الأمور التي صبغتها ثقافتنا الدينية والاجتماعية بسمة "التابو" و"الانحراف" وبالتأكيد "المياعة" وربما "الخلاعة"، بحسب رؤية ومذهب المُقَيّم والقَيّم.
الغريب أنّه في الوقت الذي تطوّر فيه النفس وسائلها الخاصة للتعبير عن ذاتها ومكنوناتها، تبقى "الكليشيهات" المقعّرة والأصوات المزمجرة والعبارات المكرّرة؛ التي ينفثها أعداء الحياة؛ على حالها ومن نسج ذات منوالها.
ما أن يقترب عيد الحب "فالانتاين" حتى تصدح الأصوات من السمّاعات وفي صفوف الإعدادي والثانوي وربما في المذياع: “والله لو علمتم ما ينتظركم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً... المؤمن لا يضحك لأنه يمضي ليله باكياً من هول العاقبة... الضحك يميت القلب... وهذه الأيام يا عباد الله... ظهرت الفتن.. وحلّ الفساد.. والانحلال.. وشباب الأمّة يقلدون الغرب الكافر.. فيجاهرون بالمعصية فيخرجون رجالاً ونساءً متسكّعين هائمين في الشوارع والأزقة والحدائق وعلى المقاهي... في بدعة لا ترضي الله ورسوله، يسمونها بـ "الفالانتاين"، وما هي والله إلا طين محموم يصب على رؤوسهم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون... ينفقون أموالهم في ما حرم الله فيتبادلون الورود والهدايا ويتبعون خطوات الشيطان ليضلّهم عن السبيل...".
هذه الفوبيا الهستيرية من ممارسة الحق الإنساني في معرفة النفس والجسد والتعبير عن المشاعر، مرجعها إخضاع الشعور والأحاسيس والتفاعلات الوجدانية... إلى أحكام عقائدية ثابتة الحكم تحريماً أو إباحة، في حين أنّ العاطفة والانفعال والحب والكراهية... جميعها تتعلّق بالإشتباك والتفاعل الإنساني بين البشر بحيث يستحيل قولبتها في حكم شرعي يفتي به فقيه أو متَفيهِق.
إنّ الغلو والتطرف المعنوي المتعلّق بحرية المشاعر وحق ملكية الجسد، يعد أشدّ خطراً من ظاهرة ما يسمى بـ"التطرف العنيف" (Violent extremism) الذي بات موضة المبادرات والاستراتيجيات والنشاطات المدنية في الآونة الأخيرة، ذلك أن التطرف الناشئ عن تحريم ممارسة الحق في معرفة النفس والجسد وإتاحة المساحات الطبيعية لتفاعلاته وانفعاله مع الأحداث؛ سوف يؤدي لا محالة إلى تكوين أجيال؛ تغدو التلقائية عندها افتعال محرّم والتعبير عن المشاعر والخواطر فعل مُجَرَّم، بينما "جهاد النفس" بقهرها وقتل خلجاتها وإخماد صوتها؛ هو الناموس الذي يجب أن يتماهى معه "المؤمن" وإلا...
"جهاد النفس" كما يفهمه ويعلّمه الكثيرون؛ يعكس الحالة العدائية والاستعدائية المتجذّرة بين المرء ونفسه التي ينبغي في الأصل أن يكون متصالحاً معها محترماً لها فخوراً بمكنوناتها وتفاعلاتها.
يكرّس تعليمنا الديني ومكوننا الثقافي قاعدةً تبدو من أخطر ما يمكن أن يرتكب ضد الإنسانية، حيث يُنظَر إلى النفس على أنها فاسدة ومنحرفة حكما، فقد تربّينا وآباؤنا في المدارس والمساجد على التحذير من "أنّ النفس أمّارة بالسوء" وأنّ الأصل هو انفلات الغرائز الجنسية من عقالها، لذلك فمصافحة الرجال للنساء والنظر إلى المرأة والجلوس معها في "خلوة".... كلها محفزات تُحرِّك الغريزة الجنسية عند الرجل وبدرجة أقل عند المرأة التي هي دائماً المحفّز الرئيس لهذه الغريزة المنفلتة لأنها "أصل الفتنة". الشاهد أنّ القرينة المفترضة بأنّ النفس “أمّارة بالسوء” وقابلة للانحراف” بطبيعتها، كرّست نمطاً سرعان ما تحوّل إلى سمة وخاصّية “أنثروبولوجية” فحواها أنّ الإنسان منحرف التكوين بطبيعته، وكأني بنا سبقنا عالم النفس الجنائي الشهير “لومبروزو” صاحب نظرية “المجرم بالطبيعة”.
لست أدري إن كان الأب الروحي لعلم النفس التحليلي سيغموند فرويد قد تأثر بأدبياتنا قبل أن يتوصل إلى نظريته الخاصة بـ"الهو والأنا والأنا الأعلى"، حيث “الهو” يمثل الرغبات والشهوات بينما يمثل “الأنا” الإطار العقلاني الذي يتولى إشباع رغبات وشهوات “الهو” ولكن بطريقة أخلاقية مقبولة وفقاً لمقاييس المحيط السائد، بينما يمثل “الأنا الأعلى” السمو الأخلاقي المنزّه عن الشهوات بمختلف أشكالها، ففي حين جعل فرويد “الأنا” هي حلقة الوصل بين “الهو” و “الأنا الأعلى” لكي يكون الإنسان سويّاً ومتعايشاً، اعتبرت أدبياتنا “الهو” الأصل الذي يجمح دائماً لفرض نفسه بقوة مع تعديل بسيط يتمثل في اعتبار المشاعر والغرائز والأحاسيس في أصلها المجرد؛ وحشاً كاسراً يجب قتله وليس مجرد كبح جماحه، فسلّطت عليه “الأنا الأعلى” لتقضي عليه تماماً لتنشأ حالة من الرهبانية المتشددة المتطرفة التي ألبستها أدبياتنا اسم “الزهد”، وهذا هو عين التطرف، إذ يغدو المرء إمّا “زاهداً” في الحياة برمّتها، أو أنّه جامحاً منقاداً خلف غرائزه دون ضابط أو رابط، بعبارة أخرى، نحن أمام واقع تلاشت فيه “أنا” فرويد ليبقى في الساحة “الهو” الذي يمثل “حب الدنيا” المنهي عنه، و"الأنا العليا" التي تمثل “الزهد” في الحياة المأمور به.
هجَر أتباع "فرويد" نظرياته وأدبياته لأنهم واكبوا التطوّر والتغير، بينما ظللنا أوفياء لمفاهيم ذبحت إنسانيتنا ووجداننا قرباناً لزمان موعود يسود فيه “الهو” بأبشع صوره، حيث لا “أنا ولا أنا أعلى”، وإنما شهوات ورغبات وغرائز أو ما سمّاه فرويد “النفس المشتهية" التي تُلَبّي نداءها جنودٌ جُنِّدَت لهذا وليس لأي شيء آخر.
سيأتي "الفالانتاين" وسيتبادل العشّاق والأحبة الورود والهدايا، ثم سيمضون وهم أكثر محبةً لبعضهم متواعدين إلى لقاء أكثر حميميةً وحباً.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.