علم الفوضى أو البجعة السوداء
يعبر كتاب نسيم طالب "البجعة السوداء، تداعيات الأحداث غير المتوقعة" عن اتجاه قوي اليوم في الفلسفة والتفكير والتحليل وحتى في العلوم البحتة وبخاصة الفيزياء، ففي التحولات المصاحبة للمعلوماتية والمعرفة اليوم بدأت النظريات التي كانت تبدو منضبطة لتفسير الظواهر وتوقعها تتداعى أو تواجه تحديات حقيقية وكبرى.
البجعة السوداء عبارة عن حدث مستبعد الحدوث جدا، وله ثلاث ميزات رئيسية: غير قابل للتنبؤ بوقوعه، وله أثر كبير طاغٍ، ونقوم في العادة بعد وقوعه بحياكة مرويات وتفسيرات حوله من شأنها أن تجعله أقل عشوائية وأكثر توقعاً مما كان عليه في الواقع، ومن أمثلة البجعة السوداء: أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، والنجاح الباهر لمحرك غوغل.
ما الذي يجعلنا لا ندرك ظاهرة البجعات السوداء إلا بعد حدوثها؟ البشر مطبوعون على تعلم الأشياء المحددة، في الوقت الذي ينبغي عليهم التركيز على العموميات، ونحصر تركيزنا في الأشياء التي نعرفها من قبل، ولا نأخذ بالاعتبار ما لا نعرفه، فنعجز عن تقدير المناسبات، ويسيطر علينا ضعف مستبد أمام نزعة التبسيط، والسرد، والتصنيف، ولا نتجرأ على تصوير ما نظنه مستحيلا، بل ولا نكافئ الذين يتجرأون على تصوره.
فالكتب والروايات المهمة على سبيل المثال والتي لقيت رواجا كبيرا، هي كذلك لأنها نشرت، ولكن من بين النسبة الكبرى مما لا ينشر من المخطوطات التي تقدم للنشر، أليس ممكنا أن يكون من بينها ما هو أفضل مما نشر؟ الروائي لوسيان قدم مخطوطة لناشر فرفضها من دون أن يقرأها، وبعد أن اشتهر لوسيان قدم المخطوطة لناشر آخر، فنشرها من دون أن يقرأها.
تخيل، يقول نسيم طالب، أنك عالم في إحدى جامعات القرون الوسطى، في القسم المختص بتكهنات المستقبل، وأنك متخصص في الإسقاطات المستقبلية لأحداث التاريخ في القرن العشرين، الذي كان مايزال بعيدا عنك جدا، فإنك تحتاج إلى أن تعثر على اختراعات من نوع المحرك البخاري، والكهرباء، والقنبلة النووية، والإنترنت، والنشاط الغريب المسمى اجتماع عمل، ذلك الاجتماع الذي يقوم خلاله رجال لا يشكون من نقص التغذية بإعاقة جريان الدماء في عروقهم بمحض إرادتهم بواسطة وسيلة ثمينة تدعى ربطة العنق.
إننا ببساطة غير قادرين على تصور الاختراعات المستقبلية، ولو كنا قادرين على ذلك لكانت قد أنجزت وقضي الأمر، ففي اليوم الذي نكون فيه قادرين على التكهن بالاختراع نكون قد صرنا نعيش في حالة يكون فيها كل شيء ممكن التصور قد اخترع، وفي عام 1899 استقال رئيس مكتب تسجيل براءات الاختراع في الولايات المتحدة، لأنه اعتبر أنه ليس ثمة ما يمكن اختراعه.
وقد لاحظ عالم الأرصاد ادوارد لورانز أن التغير البسيط جدا في المعطيات يؤدي إلى نتائج كبيرة ومختلفة، وهذا ما صار يعرف بتأثير الفراشة، أو نظرية الفوضى.