عالقون في ممر البيت

عالقون في ممر البيت

 

 

ساد منذ منتصف القرن العشرين نمطُ بناءٍ محدد في معظم المدن والقرى الأردنية، وبلدانٍ مجاورة أيضاً، يشترط تشييد صالةٍ تنفتح عليها جميع الغرف (واحدة أو اثنتين أو ثلاث بحسب المستوى الاجتماعي) وبقية المرافق، وبالطبع كان لغرفة الضيوف باب آخر يطلّ على "البرندة"، التي يتوسطها مدخل البيت الرئيسي ومنه يعبر أهله إلى الصالة المذكورة.

 

ولأن العمارة في شكلها ووظائفها تعكس علاقات السلطة في كل المجتمعات، فمن البديهي أن يوافق هذا النموذج منها الحضورَ الطاغي للأب في ثقافتنا، إذ تحرِم تلك الصالة المركزية وجود خصوصية لأي فرد من أفراد العائلة الذين يمنعون من إغلاق أبواب غرفهم، في أغلب الأوقات، وتستثنى من ذلك غرفة نوم الوالدين ليس لأسباب تتعلق بقضائهما لحظات خاصة، إنما لأن خزانتهما قد تحتوي أطعمةً ومواد لا تخرج منها إلاّ بإذن الأب وحده.

 

الصالون - كما نفضل تسميته- مفردة مستعارة من اللغة الإيطالية تحديداً قبل أن تتسرب إلى لغات غربية وشرقية، لم يُخصص لوظيفةٍ واحدة لدينا، فالأبواب الكثيرة المشرعة عليه تحول دون استخدامه غرفة معيشة، لذلك قد يؤثث في الشتاء بعدد من الفرشات (استبدلت بكراسي أو كنب في فترة لاحقة)، ثم تُرفع صيفاً، ليبدو أشبه بموزّع (كوريدور)، وربما نام فيه الأولاد الذكور، بالنظر إلى اعتماد غرفة النوم الثانية للبنات، أو يتخذه الجد أو الجدة مجلساً دائماً إذا أقاموا مع الأسرة، أو قضوا أياماً معينة بشكل دوري في منازل أبنائهم تقاسماً لمسؤولية رعايتهم.

 

وكانت رباّت البيوت اللواتي يقمن بعملّ إضافي، كالحياكة تحديداً، يستخدمن الصالون لاستقبال الزبونات، فيضعن ماكينة الخياطة المعدنية السوداء (ماركة سينجر المعروفة) في ركنٍ منه، ليقابلها عدد من الكراسي، ولم يكن اجتماع النسوة فيه يقتصر على تفصيل الأثواب وقياسها، بل كانت تطول الزيارة، أحياناً، لتشمل تداول الأخبار والنميمة.

 

من المألوف أن يُستفاد منه لاستضافة الولائم في المناسبات الاجتماعية، وأن تقام كذلك حفلة وداع بنات العائلة عند تزويجهن في هذه الصالة، أو في مثيلاتها لدى الأقارب أو الجيران، إذا كانت مساحتها أوسع، قبل أن تتغير الأعراف ويُنقل هذا الطقس إلى صالات تجارية.

 

لا بدّ من الإشارة إلى تعديل أجراه سكّان هذه البيوت تمثّل في تغطية البرندات المكشوفة بالنوافذ الزجاجية لكسب غرفة أخرى للضيوف، في الثمانينات، حين بدأ فصل الرجال عن النساء، بدعوى منع الاختلاط الذي نادى به متشددون استوردوا الوهابية، وتطلّب الأمر تعديل أبنية وسلوكيات وعادات!

 

نما التعصب الديني في الوقت الذي جرى فيه استعارة نمط البناء الغربي، فتحوّلت الصالة إلى غرفة معيشة بمدخلٍ يصلها بموزع (كوريدور) يؤدي إلى بقية غرف النوم (اثنتين او ثلاثة أو أربع)، من دون أن يحدث هذا التغيير الشكلي تحولاً حقيقياً في علاقات ساكنيها، فتراجع سلطة الأب المطلقة لم يأت بحوارٍ وتقبل الآراء والشخصيات والأدوار المتعددة ضمن العائلة الواحدة.

 

بقي المطبخ ومعه الأعمال المنزلية مسؤولية الأم وبناتها، أو جرى استقدام خادمة آسيوية كشفت عيوباً أكبر في ما يخص نظرتنا إلى الآخر وتشوّه منظومة العمل بكاملها، ومن جهة أخرى لم تُوجد الخصوصية المفتقدة لكل فرد في الأسرة رغم توفر مساحات إضافية في مساكننا، التي تؤمّن هوامش سرّية واسعة للأبناء فقط، مقابل تكريس الوصاية على العقول بمسميات متعددة.

 

ومن اللافت أن إصرارنا على مسكنٍ رحب، خلافاً لشعوب أكثر رفاهية وغنى، هو مؤشر على أزمة أعمق تتصل بفقدان مدننا العربية لفضاءات عامة من حدائق وملاعب ونوادٍ وغيرها، ما يضطرنا للتعويض عنها في المنزل.

 

لقد كانت غرفة "ملتبسة" شيّدناها في بيوتنا القديمة وأطلقنا عليها اسم "صالون" وعشنا ارتباك وظائفه العديدة مدة طويلة، ولا زلنا إلى اليوم عالقين في ذلك الممر.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك