شيء اسمه التجريف!

شيء اسمه التجريف!
الرابط المختصر

يُنظر، أردنياً، إلى الخليج كأحد أهم "الحلول" لمشكلة البطالة، وتحديداً الطبقة المهنية في البلاد، بوصف دوله أحد أبرز موارد التشغيل والاستقطاب للعمالة الأردنية، خلال الأعوام الماضية؛ ما يمنح فرص عمل، أولاً، هناك، ويفتح مجالاً، ثانياً، للطاقات الشبابية الجديدة للحصول على وظائف، هنا، في القطاعين العام والخاص. وهذا وذاك، في نهاية اليوم، يصبّ في صالح موازنة الدولة؛ إذ يتم تحويل مئات الملايين من العملة الصعبة سنوياً، من المغتربين، إلى البلاد، وبما ينعكس على العقارات والأسواق والسيولة المالية.

نتحدث، في السنوات الأخيرة، في الحدود الدنيا عن مئات الآلاف من الأردنيين العاملين في الخليج، أغلبهم يعملون في المجالات المهنية؛ الجامعات، والطب، والهندسة، والتعليم والإعلام، والاقتصاد والإدارة، وغيرها من تخصصات يتميز بها الأردن على كثير من الدول العربية. وهو ما تنظر الحكومات المتعاقبة إلى مضاعفته وتعزيزه، مع الأشقاء الخليجيين، للحدّ من معضلة البطالة وزيادة الإيرادات. وهي نتائج لا نملك أن نشكّك فيها، لكنّها تحمل في طيّاتها، أيضاً، مخاطر اقتصادية واجتماعية كبيرة، يمكن اختزالها واختصارها بكلمة واحدة: "التجريف"!

التجريف يعني، هنا، هجرة الطاقات والمؤهلات والقدرات إلى الخارج، واستفادة الآخرين منها، بينما يُحرم مجتمعنا، وتُحرم دولتنا منها. ولمن يقلّل من خطورة وآفة التجريف، ويهزّ رأسه عندما يقرأ هذا الكلام، ليقول: يا أخي نحن نتفنن في "رفس النعمة"، والبحث بالمجهر عن المخاطر؛ أقول له: فقط انظر حولك، في قطاع التعليم العالي على سبيل المثال، كم هو عدد الأساتذة المتميزين والمتفوقين الذين جذبتهم جامعات الخليج! وكم هم المهندسون والإعلاميون والمعلمون والأطباء الذين هجروا البلاد باتجاه الخليج، نحو تأمين شروط حياة اقتصادية أفضل، فخسرتهم الدولة وافتقدهم المجتمع، في هذه المجالات المهمة والأساسية في النمو التنمية والتطور!

تبدو القصة أكبر بكثير عندما نفكّر في حالة القطاع العام، الذي تعرّض للتجريف خلال عقد التسعينيات، عندما بدأت الطاقات المتميزة تهجره في المجالات المهنية، نحو القطاع الخاص، سواء في الطب أو التعليم أو الاقتصاد، فتراجعت أوضاع القطاع العام بصورة مرعبة، وتحول من "ميزة أردنية" وقصة نجاح وإنجاز، إلى حِمل ثقيل وعبء على الموازنة، لأنّ الانتقال نحو الخصخصة والقطاع الخاص لم يتم على أسس تنموية وإدارية مدروسة وناجحة، بقدر ما كان تنفيذاً لوصفات جاهزة معدّة من قبل المؤسسات المالية الدولية!

لذلك، لفتت انتباهي التعليمات المهمة التي اتخذها مؤخراً وزير التربية والتعليم، عندما قرّر شرط موافقة وزارة التربية والتعليم على أي رفع للرسوم يتم من قبل المدارس الخاصة، وبرفض انتقال الطالب من المدارس الحكومية في عام الثانوية العامة إلى المدارس الخاصة (لأنّ هذه المدارس تقوم بإعطاء منح للطلبة المتميزين والمتفوقين، في صف الثاني ثانوي، فتختطفه من التعليم العام، لتحصد تميزه، وتضعه على قوائمها). وهو ما يفسّر، أيضاً، تعليمات الوزير بعدم وضع الطالب على قوائم متفوقي المدارس الخاصة إن لم يكن أمضى ثلاثة أعوام، أو ما يزيد عليها، في تلك المدرسة، حتى لا يتم خداع الأهالي بإنجازات وهمية لهذه المدارس.

في نهاية اليوم، فإن ما نحصده من حلول مالية واقتصادية عبر بوابة الخليج، ندفع ثمنه داخلياً عبر تردي مستوى الجامعات والمستشفيات الحكومية، وتراجع التعليم والإنجاز الداخلي. والأخطر أن التجريف أصبح ينتقل إلى القطاع الخاص نفسه، عبر هجرة الكفاءات فيه إلى الخليج، بسبب التسهيلات المقدمة والامتيازات الممنوحة فيه، وهي حال يعني استمرارها تجريف البلاد عموماً من الكفاءات والطاقات.

السؤال الجوهري: هل هذا هو الحل الوحيد والمصير المحتوم، أم أنّ هناك تفكيراً استراتيجياً عميقاً من الضروري أن يبدأ الآن حول هذه الأخطار غير المرئية، لكنها قاتلة؟!

الغد

أضف تعليقك