"شرشف" ماركيزي مبلول

"شرشف" ماركيزي مبلول
الرابط المختصر

لا أذكر أية رواية قرأتها، أو حكاية سمعتها، وفيها يخرج البطل الأخلاقي الكبير، والمعذَّب بالدنيا ومفارقاتها وانفصامها، من فراش بنت ليل راضياً تماماً، مقتنعاً بحكمة الحياة وعبقريتها، وأن لا شيء فيها مرتجل سوى ظنون واستعداد البشر المرضي للاستسلام لليأس والإحباط.

المضحك في الأمر، أن ذلك البطل الأخلاقي الكبير لا يعيش هذا التحول بفعل العلاقة الحميمة، التي ربما كان يحتاجها لترفع عن روحه ضغط هرموناته، ولكن لأن بنت الليل التي استضافته قالت له إنه شأنَها مهذب ومحترم، ولديه قلب يشبه قلبها الإنساني المفعم، وأنه في الصميم مثلها ويشبهها تماماً!

الحكاية تُذكّر بمقاربات ماركيز حول بنات الليل، رغم أنني متأكد أنه لم يبلغ هذا الحد من السخرية. تخطر ببالي هذه الحكاية كلما ذكرت شوارع "الجبيهة" الجانبية في عمان وبنات ليلها المنقبات (لتمويه الهوية الشخصية واجتذاب الغرائز الخليجية)، وكلما سمعتُ قصصاً عن بنات ليل القاهرة، وبيروت الصاخبة، وحكايات أهل السهر في دمشق قبل أن تتفرغ للعنف، وكلما اصطدمتُ ببنات شارع الرقة في دبي.

إلاّ أني لست على ثقة من أن بنات ليل "الجبيهة" في عمان، والقاهرة، وبيروت، ودمشق، وشارع الرقة قادرات على التسبب بأي امتحان اخلاقي من هذا المستوى الذي ينتج رواية أو قصة. أو يتسبب بنسج حكاية يتناقلها الناس وتشغل البال.

مقتنع بذلك لأني بميول أمريكـ - لاتينية، ورغم عدم يقيني، أصر على أن هذه الرواية أو الحكاية أو القصة هي في أصلها أمريكية لاتينية، ومن الحري البحث عنها هناك. في النصوص الأدبية المظلمة التي لم تفضحها أضواء الشهرة والانتشار؛ وليس لدى ماركيز و"شرشفه" الذي يتم عصره بعد اللقاءات الحميمة مع بنت الليل، عشرات المرات ولا يجف. (لماذا وما المغزى والفكرة في أنه لا يجف!)

طبعاً الروايات والقصص، تحديداً، دائماً محيرة. والكتاب في أفضل حالاتهم "مشكلجيون". أما الحياة، فأمّنا التي لا تستحي من أن تخرج علينا عارية تماماً، فنرتبك ونضطرب ونستحي و"تتخرب" عواطفنا؛ وهي هنا، في هذه الحكاية المنتزعة من نصٍ منسيٍ، تمرر علينا خلسة، ومن دون أن ننتبه، ذلك الطموح القاصر الذي يسكن وجدان ذلك "البطل الأخلاقي الكبير"، الذي يصدف أنه لا يسعى لأكثر من التساوي مع بنت ليل(هل يصدف أنه كذلك، أم هو كذلك فعلاً بحكم الضرورة الأخلاقية المتزمتة).

لا أعرف كم مرّ أبطال أخلاقيون كبار على بنات ليل شوارع "الجبيهة" الجانبية في عمان، وعلى عالم بنات ليل الفاهرة وبيروت ودمشق وشارع الرقة؛ ولكن يبدو لي أن هناك في كل واحد من هذه العناوين "شرشف" ماركيزي لا يجف أبداً، مهما تم عصره!

 

(ملاحظة: كنت أتمنى لو كان ممكناً إهداء هذا المقال إلى كاتبٍ بعينه، وباسمه الصريح).

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك