شارع الثقافة..بلا ثقافة
يوجد لدينا شارع اسمه "شارع الثقافة" ، يتوقع - بالطبع - من يزوره ويتمشى فيه ان يقف امام دار للاوبرا أو مسرح وطني كبير ، أو دار للعروض السينمائية المحترمة ، أو - حتى - منتدى للكتاب والمثقفين والشعراء ، لكنه لا يجد شيئا من هذه "المسميات" التي تنداح الى ذاكرته حين يسمع بالاسم ، على العكس من ذلك يجد على طرفي الشارع اربعة مصارف كبيرة ، ومطاعم تحمل اسماء غير عربية ، ومحلات لبيع الاحذية والملابس ، والذهب ، وفي المقابل مقاه وسوبرماركت ومكتبات صغيرة على الرصيف،... وغير ذلك من مستلزمات "ثقافتنا" السائدة.
الثقافة في بلدنا لا تجد "أبا" تنتسب اليه ، صحيح ان ثمة وزارة تحمل هذا الاسم ، لكن امكانياتها - كما نعرف - لا تسمح لها باقامة مؤتمر دولي واحد ، واصدار مجلة معتبرة على صعيد وطننا العربي ، او صناعة نجم ادبي والترويج لاعماله ، او غير ذلك فما نحتاجه على صعيد الفعل الثقافي الحقيقي الذي يحمل صورة بلدنا ، ويحصن عقول شبابنا ، ويدفع "بمنتجنا" الثقافي الى صدارة المشهد حين يكون ثمة مشهد،
يوجد لدينا - ايضا - شوارع بأسماء ولا نعرف عنها شيئا ، ومحلات كثيرة بأسماء لا تتطابق نهائيا مع مسمياتها: ثمة محل اطلق عليه اسم "مدينة مقدسة" وهو يبيع "الدخان ومستلزماته" ، ثمة شوارع اطلق عليها اسماء لأهم حواضرنا الدينية وفيها تنتشر اماكن اللهو والسهر وما شاكلهما ، ثمة "مولات" هربت محلاتها من العربية واختارت لاسمائها لغة اخرى يصعب عليك ان تفهمها.،
المدينة لا تعرف بأسمائها فقط ، وانما بما تنبض به روحها من مسميات ، فحين تطالع شاخصة لاسم ما ، تتوقع ان يعبر هذا الاسم عن المكان ، أو ان يكون دالا عليه ، لا يمكن ان تفهم كيف يكون شارع باسم صلاح الدين مكتظا بالمقاهي ، او شارع باسم ابي بكر الصديق مزدحما بالملاهي ، هذه - بالطبع - افتراضات قد لا تكون موجودة بذاتها ، ولكنها موجودة بمعناها وأشباهها ، وقد اوردتها لتقريب الفكرة ، مع انني ادرك ان القارىء يعرفها جيدا.
المسألة لا تتعلق بمن يتولى تسمية شوارعنا ، وفيما اذا كان يختارها بناء على دراسة ومعرفة أو لمجرد اطلاق "الاسماء" فقط ، وانما تتعلق "بثقافتنا" هذه التي افترقت فيها الاسماء عن مدلولاتها ، والاشكال عن معانيها ، وتتعلق - ايضا - بذاكرتنا ، هذه التي تتعرض احيانا للالغاء والشطب ، وتحاول ان تتلاءم مع الراهن.. حتى لو كان مثقلا بالانكسارات.
باختصار ، في شوارعنا وحياتنا ايضا ثمة اسماء بلا مسميات ، هياكل وابنية بلا مضامين ، التباسات بين الظاهر والباطن ، خطوط وهمية تارة تكون حمراء وتارة خضراء دون ان نعرف اسرار تحولاتها.
ترى ، هل هو جزء من موروثنا الثقافي الذي كان يسمى "الاعمى" بصيرا والعين العوراء "كريمة" وكنوع من "المجاملة" والتغطية ، ام هو جزء من واقعنا الذي تأسس على منطق المعكوس والمقلوب ، ام هو ضريبة "التراجع" الذي اصاب مجتمعاتنا ، بعد ان اصبحت الثقافة فيه سلعة فائضة عن الحاجة.. أم انها الغربة ، هذه التي تشعرك دائما باللاقيمة واللاجدوى واللاحساس،.
الدستور