سيرك أردني
في الأردن، حيث لا يصل عدد المشتغلين في الشأن العام – في الأحزاب والنقابات والمنظمات الحقوقية وحتى الوسط الثقافي- بضعة آلاف، فإن قبولك عضواً في ناديهم لا يتطلّب سوى انحيازك إلى أحد "موقفين" يتبناهما هؤلاء الناشطون خلال ثوان معدودة من تفاعلهم مع الأحداث المتسارعة من حولنا.
عليك الاختيار بين المؤيدين لعقوبة الإعدام أو المعارضين لها من دون الخوض في نقاش مع أي من الفريقين حتى لو كنت توافقه في الرأي لكنك تختلف معه في بعض التفاصيل، وعليك أن تختار وفق هذه الآلية كلما اشتعلت قضية على وسائط التواصل الاجتماعي؛ ساحة الصراع الأبرز.
يصرّ "أصحاب المواقف الصارخة" على تغييب خلفيات الحدث وسياقه، ويتعاملون معه كأنه حالة مخبرية منفصلة تماماً عن الواقع، فيخرج كل فريق مسطرته ليقيس المسافة التي تفصل بين انحيازه المسبق، عادةً، وبين الآراء/ الشخوص الذين يبتعدون عن هذه المسطرة إنشاً أو أميالاً.
هؤلاء الواحديون في إيمانهم وقناعاتهم، حتى وإن تخاصموا على كلّ القضايا، فإنهم متطابقون تماماً في رفضهم الاعتراف بتعدّد الأفكار تجاه أية قضية، بل يؤمنون أن مجرّد وجود رأي ثالث ورابع و.... فهو تعبير عن تخاذل أو قصور أو تنفّع، وعلى أصحابه التوبة والرجوع عن غيّهم أو انحرافهم.
يغيب عن بال المتنازعين على أزماتنا وهمومنا أنّ انفعالهم مع كل حدث لا يتجاوز منشورهم الفيسبوكي لساعات أو أيام، ليتمّ نقلهم بلا التفاتة إلى الوراء نحو الحدث التالي، ثم الذي يليه...، وأن تفاعلهم دائماً يكون عند أقصى درجات التوتر التي تجعلهم لحظة التفاعل مع سيرك الأحداث منساقين وراء وهم أنهم جزء حقيقي ومؤثّر مما يجري حولهم.
لن أخوض في قلّة أعداد المنخرطين في هذا التجاذب ولا عن حجم تمثليهم وقدرتهم على التغيير – فالنتيجة معروفة سلفاً وتنسحب على كاتب هذه السطور أيضاً-، لكن قياس ردود الفعل المنقسمة عمودياً حيال الوقائع المتلاحقة وتناسخها بشكل عجيب يؤول إلى محصلة وحيدة؛ أنها عدمية ولا يمكن البناء والمراكمة عليها بدليل أنه كلّما عاد النقاش/ الخصام حول حادثة بعينها شهدنا الانفعال ذاته وكأننا نعايشها للمرة الأولى، ولن تجد إضافة واحدة على دفوع كلا الطرفين.
خلاصة تعفينا من مراجعة اللغة والأسلوب التي تُطرح فيه هذه الخصومات، غير أنه يجدر الإشارة إلى أنها تنهل من مفردات وخطاب السلطات التي نشكو ظلمها وفسادها ووصايتها وإقصائيتها، ومن المفارقة أننا نتيح لسلطة مربكة وعاجزة ومتهتكة أن تمارس دور المتفرّج على أفراد يتقمصّون أدوارها ويؤدّون مشاهد ركيكة وضعيفة في مسرح معتم وصغير.
حين أُفرج عن الجندي أحمد الدقامسة، دار الجدل حول بطولته/ إجرامه في ذلك المسرح، ولأن الأسئلة يطرحها من يمتلك إرادة ووعياً للإجابة عليها، كانت الأقلّ كلفة على كثيرين هو طرح السؤال الخطأ هرباً من أجوبة تفضي إلى مزيد من الحرج ومواجهة مع أوهامنا، وبدلاً من البحث عن إدماج الدقامسة في الواقع وإعادته ليمارس "عاديته"، قرّر المتحاربون الامعان في الفصام والاختباء خلف شعاراتهم الماضوية وترْك من يملك القدرة على الاستفادة وتوظيف الحدث أن ينوب عنهم في الفعل والتأثير.
من يُخرجنا من هذا المسرح المعتم والصغير؟ قد نغادره حين نسأم الفرجة على أنفسنا.
محمود منير: كاتب وصحافي أردني. محرر "تكوين" في عمّان نت.