سيدة وسط البلد
انتهت للتو من شراء حاجياتها من الخضروات والبضائع من سوق السكر في وسط البلد، ربطت ما اشترته بكيس كبير بعناية ووضعته بهدوء فوق رأسها، وحملت باقي الحاجيات في كيس أخرى بيدها اليسرى، واتكأت بيدها اليمنى على عكازة تسندها في خطواتها البطيئة.
ترفع رجلها اليسرى بتأنٍ بخطوة محسوبة بعناية حفظاً لتوازنها، لتلحقها بعكازتها السوداء ذات القبضة العاجية التي تشببث بها اصابعها النحيلة، وتلحقها برجلها اليسرى في مسير رتيب محسوب بالتناوب بين قدميها وعكازتها.
استغرق هذا المشهد وقتاً مناسباً سمح لي بتأمّل تفاصيل صغيرة مدهشة في تلك اللوحة النسائية الحية، فسنواتها السبعين أو تزيد، لم تمنعها من أن تحافظ على مظهرها الأنيق المتناسق، بالرغم من قدم طراز ملابسها، إلا أنها ما زلت تحتفظ بقدر كبير من الأناقة وبقايا جمال كان حاضراً بقوة في شبابها بالتأكيد.
يشي المظهر العام لها، بأنها عاشت سنوات رخاء وفضاء اجتماعياً مريحاً وعريقاً، لم ينجح تقدّمها بالعمر، ولا وضعها الاقتصادي الراهن باخفاءها.
ثوب الشيوفون البني بلون الشوكلاته الغامقة الذي تزينه نقاط بيضاء ناصعة، وينسدل على جسدها النحيل المنحني قليلاً، فتح لي نافذة المخيلة على مشهد لصبية عمانية في أواسط القرن الماضي تتفرّج على واجهة المحلات، أثناء جولة تسوق روتينية، تنهيها باستراحة في مطعم الأردن –مكان مقهى جفرا حالياً- لتناول البوظة مع صديقاتها.
لم يشوّه أناقتها تلك سوى الحذاء الذي تنتعله – اتفق مع المظهر باللون البني الغامق لكنه اختلف بالشكل والحالة: حذاء رياضي مريح- وحتماً كانت تستبدله في القرن الماضي بحذاء أنيق بكعب عالٍ، وكذلك الحال مع غطاء الرأس الذي لا يمكن أن تحدد لأي مكوّن ثقافي أو إجتماعي أو ديني هو، فالشكل محير تماماً ولكن اللون متناسق بالتأكيد!
أعتقد أنها تمثّل عمان بكل تناقضاتها: مدينة تكافح لتبدو أكثر مدنية، وتحاول بشقّ الأنفس التمسّك بهذا الحلم، إلا أن تشابك العوامل الإجتماعية والثقافية التي من المفترض أن تثري المشهد العام في المدينة يشتّته بغرابة، بل حولها لمكان هجين، لا يستطيع سكانه تحديد معنى أن تكون عمّانياً بحق.
ورغم غرابة مظهرها- سيدة وسط البلد- إلا أنها ملفتة ومشاهدتها ومتابعة تحرّكاتها وتخيّل سنواتها التي عاشتها، متعة حقيقة، ولا تمحى من الذاكرة، وهي صامدة تتجوّل وحيدة، كذلك هي عمان: رغم غرابتها أحياناً، وعدم اتساق الكثير من أحيائها ومعالمها وسكانها الذي يتردّد الكثير من الانتماء إليها ويفضلون تسمية مسقط رأس جدهم الأول ويضيفون أنهم مقيمون فيها، إلا أن ذلك يزيدها سحراً يجبرك على الاندهاش يومياً.
الانحناءة الخفيفة بظهرها، يؤكد أن الزمن وما حمل من مطبّات نزولاً وصعوداً، خسر الرهان أمام عنفوان لم تؤثر فيه القلّة، ولا الوحدة، ولا ضيق العيش وتردي الحال. أليس هو ذات العنفوان العماني الذي لا تجد له تفسيراً وبعتريه الخجل من التعبير عن نفسه بقوة، إذ أبتليت بفساد وتسلط أبناء لها، غيبوا العدالة وتورطوا بالسعي نحو السلطة والمنافع، ورموا بأحلام التنمية والتغيير والإصلاح عرض الحائط.
تدخل في أحد الممرات الضيقة التي تقود نحو المسجد الحسيني، الذي يشهد أحياناً تجمّعات وأصوات تطالب تارة بالتغيير، وتارة بنصرة جار، وأخرى للتخلّص من قهر وظلم، ولكن سيدة وسط البلد كعمان نفسها وساكنيها، تتابع مسيرها وكان المشهد لا يعنيها أصلاً، ولا تستطيع تمييز ما هو لصالحها أو لصالح فئة متسلقة، أو حزب استعراضي، أو لمواطنين مؤمنين وشغوفين بالأفضل لوطنهم، فلا الصوت واضح ولا الصورة دقيقة.
تختفي -سيدة وسط البلد- في الزحام، وكذلك هي صورة عمان الجميلة تظهر أحياناً كومضات سريعة ومشرقة، لا تلبث هموم أبنائها ومشاكلهم، وتناحرهم في كل مناسبة يرونها مناسبة لإظهار ما يفرّقهم ويميّز بينهم، ويعيدهم لسنوات خلت لأصولهم ومنابتهم التي قد تعود إلى قارة أخرى أو إلى جد سابع.
ولكنهم فجأة يجدون لحظات ملائكية ما يجمعهم وسط زحام الإقصاء والتمييز والعنصرية، فيقرّرون أنهم عمّانيون متآلفون، يقدسون المشتركات وينبذون الفروقات، ويبحثون عن مواقع الشبه ويستبعدون غير ذلك.
كيف نقنع زائراً عربياً، أو سائحاً غربياً، بأن عمّان مدينة عريقة متجانسة يجمعها تاريخ مشترك وهمّ سكانها واحد، إذا كنا نحن لم نصل إلى ذلك، فلا تفكيرنا ولا موروثنا الثقافي الإجتماعي يعزّز ذلك، ولا حتى منظورنا الهندسي والتخطيطي لمبانيها وشوارعها.
كيف لبلد أن تحدّد هوية سكانها، وشكل ثقافتها، وطموحات تنميتها وبناءها، إذا كانت عاصمتها ذاتها تعاني من كوابيس لتحديد ذلك، وكيف نصل إلى جواب واقعي ومعاش لسؤال عن مواطنتك، دون أن تستعين بمكان ولادة جدك، أو قرية والدك!
أما سيدة وسط البلد-التي لم أستطع تحديد ملامح أصلها ومنبتها ودينها وثقافتها- فاستطاعت المحافظة على نمط عيشها وأن تحيا سنوات عمرها بأناقة وراحة وتصالح مع الذات بنفس الوقت.
عطاف الروضان: صحافية وكاتبة أردنية متخصّصة في الإعلام المجتمعي وقضايا الجندر.