سلطات مرعوبة

سلطات مرعوبة
الرابط المختصر

ذهبت آمال العرب بالحرية والتغيير أدراج الرياح خلال السنوات الأخيرة، بل علينا الاعتراف بامتلاكنا براعة أكبر في تمجيد السلطة وتبرير أخطائها المتزايدة، وباتت معارضة نظام الحكْم تعني بالضرورة تأييد نظامٍ آخر معادٍ له، والدفاع عن مثالبه كذلك.

 

بانت الصورة كاملةً! قوى المجتمع كلّها من أحزاب ووسائل إعلام ومثقفين وناشطين تنخرط في لعبة السلطة الجديدة، وتنقسم قوى الإسلام السياسي ومعهم بعثيون ويساريون وليبراليون في دعم المحاور الثلاثة؛ الرياض، والدوحة، وطهران، ويتساوى الجميع في الهزيمة حين لم نعد نلحظ فوارق بين خطاب الأحزاب والسياسيين وبين خطاب الفلول والمخبرين والطائفيين وتجار الشنطة!

 

تُوهم الأطراف، جميعاً، جمهورها بالانتصار مما يستدعي تقديم تضحيات أكثر تفرضها طائفية الخصم، ونفوذه المتزايد، و"عمالته" لأمريكا و"إسرائيل" –وهي تهم يوجهها كل محور للآخر- بينما الحقيقة المرّة أن المحاور تتغذى على كراهية بعضها بعضاً، وأنه لن يتمكن أي طرفٍ يتقاتل، حالياً، في اليمن وليبيا وسوريا والعراق أن يقضي على خصمه المقابل، وبذلك يصبح خطاب كل فريقٍ هو تحريض على الدم، وإدامة لقتالٍ لا نهاية له.

 

بالطبع، لن يعجب هذا التوصيف أيّ من المحاور ومنظريها، وسينعتون أصحابه بـ"العدمية"، لذا يجب التذكير بأنّ من يقود دول المنطقة -منذ حوالي عقدين من الزمان- هو تحالف الأمن ورجال الأعمال الجدد، ولو تمنينا ثورة حقيقية في كل دولة منها، فلابدّ أن يفضي التغيير إلى إعادة توزيع الثروة والسلطة بعدالة تمنح الفقراء والمهمشين حقوقهم المنهوبة، لكن ما نشهده اليوم هو صراعات طائفية في طورها للتمدد والانتشار، وسواء طال أمدها أو انتهت بتسوية فإن أمراء الحرب والتسويات هم من فئة الأمن ورجال الأعمال لا غيرها، فما جدوى أن نكون وقود الحرب في صراعٍ لا يخصنا مهما حسمت نتائجه!

 

أمراء الحروب والتسويات على اختلاف موقعهم يروّجون جملة خرافات، ولا يفطن المواطن الأردني، مثلاً، إلى الخرافة القائلة إن بلاده تتميز بموقعها الإستراتيجي وحكمة قيادتها، وهي مقولة يرددها غالبية المواطنين العرب بما فيهم أولئك القاطنين في دولٍ نخرتها الفوضى والاحتراب الداخلي، ورغم ذلك يدعي كلٍ مقاتل فيها أن المؤامرة التي تحاك عليه بسبب أهمية موقع بلاده و"عبقرية" قائد فصيله!

 

وتزعم السلطات العربية ومؤيدوها أن المرحلة تقتضي الاستعداد لمجابهة الأخطار المحدقة، وليتوقف بذلك الحديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد والحريات العامة وغيرها من القضايا التي عطلتها سلطاتنا العربية منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا بذريعة مواجهة المحتل الصهيوني أو تحقيق التنمية الشاملة، ولا نزال نشهد احتلالاً وعدواناً إسرائيلياً دائماً، وانكشفنا عن دولٍ تتراجع فيها المواطنة وبنيتها التحتية في آن.

 

الإعلام يبدو أكثر ابتذالاً في تجميل كوارث السلطة التي يمثلها، وبعد أن حاصر إعلام الرواية الواحدة ممثلاً بالتلفزيونات الحكومية مواطنيه عقوداً طويلة انتقلنا في أواخر التسعينيات إلى حقبة (الرأي والرأي الآخر) وفق مقاسات الفضائيات الجديدة، ومع اندلاع الاحتجاجات العربية عدّة سارعت هذه المحطات الإخبارية والصحف إلى تغليب انحيازاتها لرأي واحد، لكن بصورة أبشع في تعصبها وعنصريتها من ذي قبل.

 

سطوٌ منظمُ قامت به الأنظمة العربية على ما تبقى من فاعلية مجتمعية، مستفيدة من حال الاضطراب داخل الإقليم وكل دولة على حدة، وعليه انتفت أي "رقابة" معرفية أو أخلاقية أو قانونية قد يمارسها المجتمع على نفسه.

 

ما حدث ببساطة أن مجتمعاتنا العربية انفجرت، خلال فترة ما سميت بـ"الربيع العربي"، عن أمراض السلطة التي نعاني منها جميعاً؛ إنكار الآخر وتفعيل الغرائز لمحاربته، فيغيب العقل والفرد لصالح الجماعة وخوفها الذي لا يجلب معه سوى الفساد والاستبداد وتحويلنا إلى أفراد متماثلين إذ ننفعل ونصرخ ونقاتل ونغادر إنسانيتنا على هيئة موحدة؛ قطعان تائهة تقودها سلطة مرعوبة!

 

هزيمة كاملة للوعي يؤكدها تأييدنا المطلق لسلطة تعاني شتى صنوف العجز والخوف والارتهان، غير أنها تُخفي أزمتها بوجود مجاميع بشرية تهتف باسمها وتسير طوعاً إلى موتها المحتم.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

 

أضف تعليقك