سجائر في البال

سجائر في البال
الرابط المختصر

أُقلع عن التدخين للمرة الرابعة، في حياتي، محتملاً بضع أيام عصيبة يلازمني خلالها أرق وذبول وتوتر دائم. لا رغبة لديّ في الردّ على تعليقات الأصدقاء وتساؤلاتهم حول أسباب الامتناع، وأكتفي بعبارة واحدة: سأعود إلى سجائري بعد عامٍ.

يمتعض جاري البقّال فور سماعه الخبر، ويصف فعلتي بـ"العبثية"، فهو لا يجد مبرراً لتوقفي الموسمي عن النيكوتين، الذي يعني بالضرورة انخفاض قيمة مشترياتي، غير أن أحد زبائن المحل نظر نحوي مندهشاً، وأثنى عليّ باعتباري صاحب إرادة حديدية أضبط ملذاتي في اللحظة المناسبة.

"إرادة حديدية" وصداع شديد يحولان دون مشاركتي في السجال الدائر، لكني تذكرت زميليّ المتدينين في العمل، فرغم اتفاقهما على تحريم التدخين، إلاّ أنهما اختلفا في شأني؛ الأول أشاد بترك المنكر وهو ما أستحق عليه الثواب، بينما رآني الثاني آثماً لأنني أحمل نيّة مبيتة بالعودة إلى المحرمّات.

خطَر في البال مشهد ثلاثة فتية في المرحلة الإعدادية يجمعون مصروفهم اليومي لشراء علبة سجائر محلية الصنع وتدخينها سوية في نهار عيد الفطر، ثم يدّب الخلاف بينهم حول نوع الدخان الذي يشتركون به، وكيفية تقاسم عشرين سيجارة فيما بينهم.

بعيداً عن أسباب تدهور صناعة التبغ الوطنية، والعلاقة العضوية التي تمثّلها "سيجارة العيد"، إلاّ أن شعوراً غريباً يجتاح المراهقين جراء العقاب الذي يفرضه الأهل بسبب تعلّقهم المبكر بالتدخين، فلن يفلح الكلام الثقيل المكرور والتعنيف اللفظي والجسدي في مجتمع يُخفي احتفاءه بالمدخن.

ولا يمكن لــ"متبصر" أن يرسم نموذجاً ينافس صورة المدخن الجذابة، التي تطفو في قاع وعينا الجمعي، فهي تضيف وسامة على الرجل وتمنحه حضوراً حيث تتركب جملة سلوكيات تشي بالتمرد والنزق سواء بطريقة حمل باكيت الدخان وإشعال السيجارة واستنشاق دخانها ونفثه دوائر...

وعلاوة على ذلك، فإن التداخل والالتباس بين مفهوم الحيز العام والخصوصية في ثقافتنا يجعل من المستحيل إنهاء الاعتداء القائم والمباشر والمديد على حياة غير المدخنين.

يبادرني صديقي، الذي يفرط في إدعاء العقلانية، بتعداد المكاسب التي سأنعم بها؛ توفير مئة دينارٍ شهرياً، تخفيف آثار الحساسية، والوقاية من أمراض القلب والشرايين، لكن هذه الفوائد لا تعدل الضرر المتمثل بضعف جهاز مناعتي، بسبب تكرار التوقف والعودة إلى التدخين، بحسب صديق آخر يشتهر بمواقفه الجذرية.

"عقلانية" و"جذرية" لا نفع لهما إذ أحرم من النوم أياماً عدة على التوالي حتى تزول أعراض الانسحاب النيكوتيني بحلول اليوم الخامس، وأستعيد حياتي بايقاعاتها المملة التي ستنفلت عندما يحين موعد تدخيني السيجارة الأولى في العام المقبل.

أضف تعليقك