"زمزم".. كميراثٍ لغويّ
حزبٌ دينيٌّ آخر، وخطابٌ يتأدلجُ بأصولٍ وفروعٍ إسلامية، بالغةِ الدقة والحسم. هذا هو تشكيلُ "زمزم"، وهو يسيرُ من مبادرةٍ، وقّعتها قوى أردنية محافظة إلى حزبٍ سياسيٍّ، أعلنَ القواعدَ العامة، ورشحَ أنّ اسمه "المؤتمر الوطني"، فيما دفعَ بعضُ مُنظّريه بأنَّ الأحزاب قد تبدأ دينيةً، ثم تتحوّلُ علمانيةً، لتُحاكي"الحزب المسيحيّ الديمقراطي الألماني" الذي تقوده انجيلا ميركل الآن، وقد تأسسَ قبل أكثر من سبعين عاماً.
المؤسسون تركوا لمن يقرأ مبادئَ الحزب العتيد حريَّةَ التفتيش عن النسخة التي يحلمُ بها: شبه أردغوانية في نظامٍ علمانيّ متخيّل. شبه بنكيرانية في ملكيّةٍ ناعمة. أو إذا شاءَ شبه أردنيّةً تقدميّة، مقارنةً بـ"الإخوان المسلمين"، حيثُ يُمْكِنُ فهم التحدي الذي خاضهُ المنظِّرون، وهم يبحثون عن بلاغة، أكثر تحلُّلاً من صراخ المنابر وضجيجه في الأدبِ "الإخوانيِّ".
النسخةُ المنشورةُ لقواعد الحزب حاولتْ كَسْبَ مساحاتٍ مختلفة، تردَّدَ الإسلامُ السياسيُّ تاريخياً في الاقتراب منها، لكنَّ المحاولة اصطدمت بالمركز: رؤيةً، وخطاباً، فالمادة الثانية من النظام تعلنُ أنَّ "الحزبَ مدنيٌّ، يستند إلى ثوابت الأمة في قيمه وتوجهاته". وأولها الإسلامُ، الذي توخّاهُ المؤسسونَ "سياقاً ومرجعاً"، ويمثِّل تحديداً "الإطارَ الحضاريّ الواسع للأمة بكل مكوناتها، كما يمثل المرجعيّة القيمية العليا التي تعد مصدراً لثقافة الأمة وهويتها الجامعة، التي تستوعب الجميع مسلمين وغير مسلمين على درجة سواء". وفقاً للمادةِ الأولى من المرجعيات.
من هنا تبدأ براعةُ الإيهام في الدور. حزبٌ مدنيٌّ، يسعى إلى دولة مدنية، لكنّ الإطارَ والمرجعَ إسلاميّان تماماً، وعلى المجتمع أنْ يجد حلولاً دينية للمشكلات والقضايا المعاصرة في الكيان المدنيّ. ربما يحتاج حزب "زمزم" إلى مؤسسة فقهية للإفتاء والاجتهاد، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتشريعات والتعليم.
المادة الثانية من المرجعيّات تنصُّ على أنّ "الوحدة العربية والإسلامية ضرورة حتمية، وتتحقق بالسعي المتدرج لها من خلال التكامل بين الأقطار العربية والدول الإسلامية". وذلك في حرصٍ مُركزٍ على الولاء الدينيّ، والبراءة من الهوية "المدنية"، بل ونفيها في دولة مركزيّة مرتبكة، حالفتْ حظّاً سعيداً بالتعبير عن تطوّرها في "زمزم" أثناء الربيع العربي.
ما يبحثُ عنه الأردنيونُ بعد "المنطلقات، والرؤية، والمرجعية، والأهداف" في قراءة القواعد التنظيرية لـ"زمزم" سيجدون مثله تقريباً لدى جبهة العمل الإسلاميّ، وعند التنظيمات الوسطيّة الإسلامية الأخرى، بما يُشبه ميراثاً لغويّاً يتداوله الإسلامُ السياسي، ويتقاطعُ مع تعبيرات وثوابت لدى الهياكلِ القومية الراديكالية، عندما تغازلُ القوى العلمانية بـ"المواطنة. الانفتاح. القبول بالتنوع" ثم نبذ العنف والتطرف والإرهاب، وخذْ ما شئتَ من صناعةٍ متقنةٍ للشعار، بما يصلحُ لبيانٍ كلاسيكيّ عن الإصلاح، مثلاً.
وفي حين تتضحُ التشكيلاتُ الاجتماعيةُ الأردنية، وتتصارعُ واقعياً، فإنها تختفي في "الهوية الإسلامية الجامعة" وفقاً لـ"زمزم" التي ينصهرُ فيها قسراً الأردنيُّ المسيحيُّ في الكرك والسلط وعجلون مع المسلم الباكستانيّ والأفغانيُّ في كابول وكراتشي. وذلك تحت إكراهات الخوف من التصنيف، إِذْ لم يأتِ النظامُ الداخليُّ على ذكر المسيحيين، أو غيرهم، ورأى أنَّ التذويبَ في صالحِ انسجامٍ يفترضهُ لمكوّنات المجتمع الأردنيّ، فالإسلام هو المادة الحصرية والفعّالة لصهر الهويات.
ما المصلحة في حزبٍ دينيٍّ في العام 2016، لم يضعْ في نظامه الداخليِّ سوى جملة واحدة عن التعليم، ويرى أنّ الفنَّ يجب أن "يكون هادفا". يَقُولُ المؤسسون بضرورة "الاهتمام بالفن الأردني الهادف والأصيل، وتوجيهه نحو خدمة مشكلات المجتمع ومعالجة قضاياه".
أعادَ "زمزم" صياغة مقولاتٍ كثيرة، لكي نفهمَ بأنه "حزب دينيٌّ" يتقدّمُ في الأرضِ نفسها. الفروقات لغويّة، واللغةُ ترثُ الاشتقاق، مثلما ترثُ المفاهيم.
*باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ مقيم في الإمارات.