رُبّ ضارّةٍ نافعة
بالتأكيد لم نكن بحاجة إلى دفع "كلفة" ما حدث في ميدان جمال عبدالناصر، وما تلا ذلك من تفجير وانفجار للمخاوف والاحتقانات التي تجلّت بصورة "عُصابية"، وصلت ذروتها على صفحات التواصل الاجتماعي، ما أفزع الجميع، وأثار القلق بأنّ البديل الوحيد والمباشر للحوار والتفاهم على مسار المرحلة المقبلة سيكون مريراً، وليس في مصلحة أحد.
في أعقاب ذلك، شهدنا صحوةً متأخرة من الحكومة لإيقاف مهزلة التجييش والتعبئة والتحريض العنصري، انبثق عنها بالأمس رسالة من رئيس الوزراء إلى الحكام الإداريين تستبطن وقف الحملات الاستفزازية، وإعادة تمركز الدولة في "مربعات" مختلفة تماماً عن تلك التي بدت عليها خلال أحداث الجمعة، وما بعدها. وهو ما أكّده عملياً تلويح وزير الإعلام طاهر العدوان، بالاستقالة احتجاجاً على "الإعلام شبه الرسمي"، أو القريب من الخط الرسمي، الذي كان يؤجّج العداء والتحريض على المعارضة والحركات الشبابية الإصلاحية.
حجم الألم في النفوس ما يزال كبيراً ممّا جرى يوم الجمعة، وما تلاه. ويشعر كثير منّا بالمرارة الشديدة عندما نتذكر خيري سعد الذي سقط في الأحداث، وعشرات الإصابات، ومنها إصابات حرجة، وهم معتصمون سلميون مطالبون بالإصلاح. لكن الضرر النفسي الأكبر يضرب بعمق قلوب الناس وهم يرون ما حدث بالتفاصيل الموثّقة بالصوت والصورة عبر الشبكة العنكبوتية، مع ما يثيره ذلك من انعكاسات سلبية كبيرة تتخطّى حدود التحكم والسيطرة، إذا ما سمحنا لها بالاستمرار والتمادي.
تلك الصفحة يجب أن تطوى، وأن نفتح صفحة مختلفة تماماً، لكن على أن يبقى حاضراً في أذهاننا ما تعلّمناه من دروس كبيرة، وفي مقدّمتها أهمية إزالة "التشوهات الاجتماعية" والاختلالات السياسية والرسمية، التي كشفتها الأحداث، حتى ندرك تماماً أنّ الأوضاع فعلاً ليست سليمة ولا صحيّة.
ما حدث هو أكبر دافع ومحرّك لمسيرة الإصلاح الشامل، وليس فقط السياسي، وتأكيد أنّنا بحاجة إلى عمليات جراحية مفصلية، وليس جراحات تجميلية، تبدأ من قلب العملية السياسية، أي المؤسسات الدستورية، البرلمان والحكومة، وما يتعلّق بها من قوانين العمل السياسي، بالتوازي مع إزالة التشوهات في البرنامج الاقتصادي، وما نجم عنه من أزمة "المركز والأطراف" أو "اختلالات اجتماعية" مقلقة.
نحن بحاجة أن نطمئن الجميع أنّ الإصلاح السياسي ليس لمصلحة طرف ضد الآخر، ولن تستفيد منه مجموعة وتخسر الثانية. بل هو لخدمتنا جميعاً ولمصلحتنا جميعاً، من أجل حياة كريمة ونظيفة مستقرة، يستطيع الجميع من خلالها حماية مصالحهم، والبحث عن مستقبلهم، ومن أجل الأردن الذي نريد أولاً وأخيراً.
أبناء القرى النائية والمحافظات البعيدة والقريبة، الذين يعانون من الظروف الاقتصادية المريرة، وأبناء الطبقة الفقيرة الكادحة في المدن الرئيسة، هم المستفيد الأول من الإصلاح السياسي لإعادة بناء التوازنات الداخلية، ولضمان تمثيل لهم في البرلمان والمؤسسات التمثيلية الأخرى، للدفاع عن مصالحهم والتعبير عن قضاياهم.
الوصول إلى الديمقراطية ودولة المواطنة والقانون والشفافية والمساءلة والقضاء النزيه وتحقيق مبدأ "الأمة مصدر السلطات"، وتمكين حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتكسير حواجز الخوف والرعب لدى الأجيال الجديدة لتستنشق هواء الحرية الحقيقي، والبحث عن فرص الولوج الحقيقي للمستقبل، كل هذا بمثابة الحلم الذي يطغى علينا في نومنا وصحوتنا، وهو ما يجب أن نرسم الطريق الآمنة له.
"الحرية، العدالة، الكرامة" هذا هو الهدف الذي يضمن الأمن الحقيقي، ويزيل الاحتقانات والتشوهات، وعلينا ألا نخشى ولا نقلق من عبور الطريق التي تؤمِّن للأجيال المقبلة حياةً أفضل.
الغد