رهاب جنسي
كثيرون كتبوا عن جرأة فقهاء وأدباء ألّفوا عشرات كتب الجنس في تراثنا العربي، منذ عشرة قرون وأكثر، وانتقدوا المنع المتأخر لها في عصرنا الحالي، لكننا لم نحظ بدراسات نقدية وفكرية ونفسية تنبش سلوكنا الجنسي وتطوره، وتبيّن الأسباب الحقيقية والظروف السياسية والاجتماعية التي قادت إلى حظْر نشر هذه العناوين وتداولها لاحقاً، علماً بأن هناك عشرات المخطوطات غير المحققة وغير المنشورة في هذا المجال.
لم يعد سراً أن الاهتمام بالموضوع الجنسي ابتدأ مع عصر التدوين، في العصر العباسي، بعد عقود قليلة من كتابة الحديث والسيرة النبوية والفقه وغيرها، وظلت رائجة قبل أن تطالها رقابة السلطنة العثمانية بموجب قرارات وتعليمات إدارية –وهذه تقديرات تحتاج بحثاً لتأكيدها-، إلى أن خضعت للتحريم في عصرنا بسبب تصاعد المد الوهابي.
وقد تعدو طرفة حين نذْكر أن إقصاء المدونة الجنسية من مكتبتنا العربية تزامن مع ترجمة هذه الكتب في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأنها نالت أهمية كبرى وحققت انتشاراً في ثقافةٍ أوروبية أقل ما يمكن وصفها في ذلك الوقت أنها كانت محافظة!
يحسب لأدبيات الإثارة هذه أن كتّابها قد استعرضوا أوضاع العملية الجنسية، وسردوا المغامرات العاطفية السرية منها والمعلنة، والنوادر بين الأزواج والعشاق على فراش الحب، ناهيك عن أخبار الغلمان والجواري، والجنس الجماعي، وتعداد أسماء الأعضاء التناسلية بالعشرات، وتسميات حالاتها وأوصافها، وأفرطوا في الحديث عن مقويات الرغبة من أغذية وأدوية، وهو ما يعكس حجم الخرافة المتغلغل في ثقافتنا إلى الوقت الراهن.
هناك فرضية بحثية متواترة تقول إن كتاباتنا الجنسية القديمة جاءت أغلبها على يد رجال دين بأوامر من المؤسسة الحاكمة، وهو ما يلمح إلى كونها جزءاً من آلية الوصاية والتوجيه، ومنها "نواضر الأيك في معرفة النيك" للإمام ومفسر القرآن جلال الدين السيوطي، الذي وضع عشرات المراجع في "النكاح"، إلى حد أن البعض اتهمه بالسطو على أعمال غيره ونسبتها إليه، و"الروض العاطر في نزهة الخاطر" للنفزاوي، الذي وضعه بناء على طلب السلطة ممثلةً بوزير السلطان التونسي عبد العزيز الحفصي، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه" لأحمد بن سليمان باشا.. إلخ.
تكرار لفظ "الباه" أو "الباء" بمعنى النكاح، وهو ما عنونت به آثار عديدة، يوصلنا إلى إشارة مفتاحية حيث أن هذه المفردة شائعة التداول، تاريخياً، تعني أن يستمكن الرجل من الأنثى، وهي تعطيه أفضليةً وتفوقاً وتمنحه ضمنياً حق تملكها، وهو لا يزال مفهوماً مؤسساً للجنس عند العرب حتى الآن.
ويلحظ متصفح العناوين المذكورة إلى أن الفعل الجنسي مجرد ويصف عملية ميكانيكية لا صلة لها بمشاعر الحب والهيام، التي تشرح في سياق منفصل كلياً، وهناك قدر كبير من ادعاء القدرات الخارقة، خلافاً للنص الهندي الأقدم "كاماسوطرا"، الذي لم يفصل بين الجنس والحب، ومنحهما أبعاداً فلسفية ورمزية.
يبتعد التشخيص في هذه المصادر عن المنطق أحياناً كثيرة، فينهى عن العلاقة الحميمة في أوقات معينة مثل الصبح لدواعٍ غير مقنعة، أو يحذر من ممارستها وقوفاً أو بوضع جانبي لأنها تسبب أمراضاً لا صحة لها، على أن الغريب أن بعض هذه الخرافات يجرى تناقله إلى اليوم.
قصص وحكايات عديدة تظهر غلبة التخييل على الحقائق في موروثنا الجنسي، رغم نظْم آلاف أبيات الشعر، والبلاغة والمحسنات البديعية التي تطغى على السرد، فعلامات الفحولة ترتبط بطول القضيب وشكله وتكرار العملية الجنسية مرات قد تصل إلى العشرات في بعض المرويات، غير أن المرأة تظهر مذمومة إذا أكثرت من الممارسة، وتنعت بأقبح الصفات، وفي ذلك كله إحالة إلى مراوغة ودوران على الواقع الذي يفتقر إلى علاقات عميقة وغنية، ويكشف تناقضاً خطيراً في ثقافة أعلت من حب عذري يغتال الجسد، وأفرطت في استعراض جنسٍ خالٍ من أية مشاعر حقيقية.
الراوي الرجل في جميع هذه الأعمال التراثية يجنح نحو العنف والشدة في توصيف الفعل الجنسي من أجل مزيد من الإثارة التي تلبي احتياجات الذكورة وحدها، ويجدر الاستشهاد ببيت شعر شهير لأبي نؤاس حُجب لأسباب غير معلومة، ويقول فيه: ألذ النيك ما كان اغتصابا ... بمنع الحِب أو خوف الرقيب.
وبدلاً من تحرير لغتنا وثقافتنا من سلطة ذكورية كانت ترى في تصوير حياة رجالها الجنسية أمراً عادياً ما دامت المرأة عنصراً غير فاعلٍ فيها، تمّ تكريس هذه السلطة وتعزيز حقها في تملّك النساء، والتخلي في الوقت نفسه عن أية تعابير فنية أو أدبية قد تفضح كبتهم وتعري بطولاتهم المفتعلة!
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.