بداية لا بد من تأكيد أهمية تخفيض عجز الموازنة، وتصويب تشوهات الهيكلة، وهذا يتطلب التخلي عن النهج السائد الذي أوصل البلاد الى الأزمة، واستغلال مناسبة طرح مشروع قانون موازنة 2013 للاستفادة من تجارب الماضي، فالبلاد تواجه ازمة متفاقمة ناجمة عن السياسات المالية والاقتصادية التي مارستها الحكومات المتعاقبة، رغم الانذارات التي صدرت من قبل العديد من اصحاب الرأي والمؤسسات البحثية والاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، بضرورة ضبط النفقات العامة وربط معدل نمو النفقات بنمو الايرادات بشكل عام، واعطاء الأولوية في الانفاق للعمل والصحة والتعليم، ومن ثم توزيع ما تبقى من ايرادات على مختلف الوزارات وفق الأولويات، آخذين بعين الاعتبار أن ايرادات الدولة محدودة ومتواضعة، وأن 86 % من الايرادات المحلية تأتي من جيوب المواطنين. ومع ذلك دأبت الحكومات على زيادة الانفاق العام الممول بالعجز، الذي تُجرى تغطيته بالقروض والمساعدات الخارجية. وقد اعتبرت الحكومة القروض والمساعدات جزءا من ايرادات الدولة، ما راكم مديونية مرتفعة، اصبحت تكلفتها أعلى من الدعم المعلن رسميا في الموازنة، كما أصبح كل طفل يولد اليوم مدين بقيمة 3500 دولار. واتجهت الحكومة في الآونة الأخيرة نحو القروض الخارجية بعد ما سحبت السيولة الداخلية من الأسواق المحلية ونافست القطاعات الاستثمارية، وللاقتراض الخارجي تكاليف سياسية يتولى صندوق النقد الدولي فرضها ومتابعتها.
أما المنح فهي غير ثابتة ومتذبذبة ولها أثمان سياسية باهظة تمس الكرامة الوطنية أحيانا، لذلك فهي تخضع لرؤية الجهات المانحة، فمن المعروف أن لا أحد يقدم هبات بلا مقابل. فعلى سبيل المثال ورد في موازنة 2012 منح أخرى بقيمة 700 مليون دينار، لم يحدد مصدرها وفق الأسلوب المتبع عادة، لم تأت هذه المساعدات لغاية الآن، وكان الاعتقاد السائد أنها ستأتي من دولة شقيقة... لذلك من الخطأ جدا اعتبار المساعدات والقروض جزءا من ايرادات الدولة، يتم توزيع الحصص على الوزارات وكأنها متحققة، وفي نهاية المطاف تتوجه الخزينة لجيوب المواطنين للخروج من الورطة، وفاء لالتزاماتها مع صندوق النقد الدولي بتخفيض عجز الموازنة، وتخفيض الدعم المزعوم.
أما قصة الدعم المزعوم تحتاج الى وقفة، يزعم رئيس الحكومة أن كل دينار ينفق من مواطن على البنزين تدعمه الخزينة بدينار آخر. وللأسف كرر الرئيس هذا التصريح في لقائه مع النقابات المهنية بعد ما أعلنه من على شاشة التلفزيون الأردني في برنامج " ستون دقيقة " بعد تشكيل حكومته بأيام. نرجو من دولته احترام عقول الأردنيين، الكل يعلم أن البنزين بشقيه يحقق أرباحا مرتفعة، وللأردنيين ذاكرة، ففي 8 شباط 2008 تم تعويم أسعار المشتقات النفطية وحددت الحكومة سعر البنزين بـ 0.575 و .0.660 فلسا للتر الواحد من أوكتان 90 و 95 على التوالي وكان سعر برميل النفط في حينه حوالي 100 دولار، يساوي الأسعار الحالية، ولنترك للحكومة احتساب نسبة الأرباح الخيالية التي تحققها الخزينة من فروقات أسعار المحروقات حاليا مع أسعار شباط 2008. وقد أعلنت الحكومة لاحقا إنها تحقق أرباحا من البنزين واستحدثت صندوق التحوط لتغطية العجز الحاصل من السولار والغاز من الأرباح المتحققة من البنزين. ومع ذلك يصر الرئيس أن البنزين مدعوم من الخزينة. اليس من حق المواطن ان يطلع على الحسابات الختامية لصندوق التحوط ..؟ اليس من حق المواطن ان يطلع بشفافية على طريقة احتساب المشتقات النفطية ونسبة الارباح التي تحققها الحكومة ؟
تبقى القضية المركزية المتعلقة بكيفية مواجهة الأزمة المالية المتفاقمة في البلاد، فهي قضية وطنية بامتياز، على المسؤولين الالتزام بالأفكار والاقتراحات التي تبنوها قبل وصولهم الى موقع المسؤولية، ومن باب التذكير هناك سلسلة من الاجراءات التي يمكن اتخاذها، دمج مؤسسات الدولة الخاصة، وتوحيد موازنات المؤسسات الخاصة مع الموازنة العامة للدولة، وزيادة رسوم التعدين، وتخفيض النفقات العامة للدولة المدنية والعسكرية، والتوقف عن الانفاق المظهري، وتطبيق سياسة تقشفية على النفقات الحكومية، والحد من هدر المال العام، واتخاذ اجراءات صارمة لتحقيق هذه الاهداف، واعتماد الضريبة التصاعدية على ضريبتي الدخل والمبيعات، قد يقال إن القوانين تحتاج الى برلمان لاقرارها، هذا صحيح لكن هذا المطلب مكرر من عدة سنوات... كما ان فرض ضريبة على المحروقات يحتاج الى مجلس نواب.
العرب اليوم