رسالة قد تصل

الرابط المختصر

بهدوء لا أعرف كيف واتتني به العناية الإلهية، وإثر متابعتي للمسلسل الدموي اليوميّ الواقعي جداً، والمتطرف في غرائبيته، المُخْرَج بإتقانٍ لا يُحسنه حتّى أساتذة هوليوود الكِبار، أقفلتُ التلفاز وبدأتُ بكتابة هذه الرسالة. رسالة قد تصل وقد لا تصل. رسالة موجهة إلى “إنسان” كعنوان أوَّل، وإلى “مجاهد مؤمن” في تنظيم داعش وأمثاله كعنوانٍ ثانٍ، وإلى “زاهِقٍ لروحه كلّما قتلَ أحداً” كعنوانٍ أخير في نهاية المطاف. أأكون مثالياً في كتابتي هذه؟ متفائلاً؟ يائساً؟ آمِلاً؟ واهماً؟ خارج الوقت والمكان الراهنين؟ ربما هذا كلّه معاً؛ فها نحن نقيمُ في زمنٍ كأنّ جميع “البدايات” لم تبدأ! جميع “الخلائق” لم تُخلق!

لا بأس. ففي البدء كانت “الكلمة”، ولعلّها البلسم.

*   *   *

إليكَ:

حين الإمعان في طبيعة العلاقة التي يقيمها الواحدُ مِنّا بين الدين والدنيا، على نحوٍ تفاعليّ قاعدته التأمل والتفكُّر، يجد أنّ الأخذَ بالأوّل (الدين) إنما يتجاوز الذات الواحدة المتفاعلة، إذ تنفتح على  الثاني (الدنيا) الذي هو المجتمع بوسعه. كلّ الآخرين. والدين في حدود الأفراد يكمن في مسألة الإيمان البسيط، لكنه العميق الغائر حيث بذرة الخير هي الأصل، والمحبّة روحها التي تَمنحُ المؤمنَ معناه. ففي كُلِّ من هذين البُعدين (الخير والمحبّة) يستقيمُ العيشُ، وتصبح الحياة محتملَة ورحبة تستقبل حيوية العملوالإنجاز (إعمار الأرض لا هدمها) لدى المؤمن: المؤمن بدينه، والواثق من دنياه.

إذَن: نحن الآن في قلب العالَم إذا ما فهمنا العالم بأنه الإنسانية. وإذا ما آمنا بأنّ الإنسانية، كَنَبْتٍ إلهي، تكمن في قلب الفرد المؤمن بالخير والمحبّة معاً، بصرف النظر عن عنوان إيمانه ومُسَماه. فماذا، والحالة هذه، إذا ما اتفقنا أيضاً على أنّ المُعطى بوجهيه (العالم/ الإنسانية) كان، من حيث النشوء الأوّل، يتصف بالتعدد والتنوّع والاختلاف وغِنى الألوان؟ هل نقبل بهذا، أم نعمل على تجريد كل اختلاف من خصوصيته، وتغييب كل آخر مغاير لنا بطمس تمايزه عنّا، والسعي لنسخ أشياء العالم ومخلوقاته المتعددة لتكون “مثلنا”، وعلى غِرارنا.. وإلّا فهُم “الأعداء” و”الكُفَّار”!!

هل نُجَرِّدُ عندئذ سيوفنا من أغمادها، ونعلنها حرباً “مقدسة” باسم السماء، لأنّ لنا ديناً نؤمنُ بأنه الأصحّ الوحيد، وبالتالي فإنّ لا دنيا حقة وحقيقية ينبغي أن تسود سوى دنيانا؟

أوَلَسْنا، إذا ما نجحنا في فعل ذلك كلّه، إنما نكون قد حوّلنا العالم/ الإنسانية إلى مجرد “مُسوخ” باهتة، وأمثال شائهة! ننسخ أنفسنا في مخلوقاته، فنمسخهم ونشوِّه طبائعهم!

أيّ مصير بائس لهذا العالم من بعد! أيّ عيشٍ بلا معنى نحياه من بعد! أيّ مخالفة جَهور نمارسها بصَلَفٍ متجبِّر للوصايا السامية تلو الوصايا الواردة في الكتاب الكريم:

“ولو شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ جميعاً أفأنتَ تُكْرِه النَّاسَ حتَّى يكونوا مُؤْمِنين.” (99) سورة يونس.

“لا إكراهَ في الدِّين قد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ من الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوتِ ويُؤمِنْ باللّه فقد اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثقى ولا انفصامَ لها واللّهُ سَمِيعٌ عَليمٌ.” (256) سورة البقرة.

“وَلوْ شاءَ اللّهُ لجَعَلَهُمْ أُمَةً واحِدَةً ولكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ في رَحْمَتِهِ والظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِن وَلِيٍّ ولا نَصِير.” (8) سورة الشورى.

أما في الحديث الشريف، فلنا أن نتذكَّر:

“رجلان من أُمتي يُحرمان مِن شَفاعتي: مَلِكٌ ظالِمٌ، ومُبْتَدِّعٌ غالٍ في الدِّين مُتَعَدٍّ في الحدود.”

“يحملُ هذا العلمُ من كُلِّ خَلَفٍ عَدول ينفونُ عنهُ تحريفَ الغالين، وانتحال المُبْطلين، وتأويل الجاهلين.”

وثمَّة ما ينبغي الرجوع إليه، جاء على لسان الإمام الشافعي، إذ قال:

“رأيُنا صَوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأيُ غيرنا خَطأٌ يحتملُ الصَواب.”

*   *   *

.. ونحن، قبلَ أن نُجَرِّدَ سيوفنا من أغمادها لنخوضَ حرباً نراها “مقدسة”، فلنتريّث قليلاً ونتمعَّن عميقاً في قَول سعد بن أبي وقَّاص:

“واللّه لا أقاتلُ حتّى تأتوني بسيفٍ له عينان وشَفتان، فيقولُ هذا مؤمِنٌ وهذا كافر.”

وها أنا أسألكَ، يا أنتَ الذي تُجري سيفكَ في رِقاب غيركَ غير الذاهبين مذهبكَ:

 – هَل بقي منكَ شيءٌ من عنوانك الأوّل: “إنسان”؟

 – هَل ثمّة عنوان أراسلك عليه، سوى اللحد الشاسع الذي تحفره لتسكنَ فيه مع ضحاياك؟

– هل ستصلك رسالتي قبل بلوغك ذاك اللحد؟

كاتب وروائي حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.