رسالة إلى وزير التربية والتعليم
لا نملك إزاء تعيين عمر الرزاز وزيراً للتربية والتعليم في التعديل الحكومي الأخير سوى التوقّعات؛ إيجابية وسلبية، وهي نابعة من حالة عدم التوافق على الأسباب الموجبة لتغيير المنظومة التعليمية وعلى مخرجاتها، ما يؤثّر على تقييم أداء وزير قد يغادر موقعه بالطريقة ذاتها التي أتى بها.
رغم ذلك كلّه، فإن تسّلم الرزاز مهامه الجديدة يستحقّ نقاشاً مستفيضاً ومعمّقاً حول الممكن والمأمول منه، ولنبدأ من رؤية الوزارة لمهمتّها، والتي تشكّل أساس الفصام بين مضمونها وبين الواقع، إذ نجد صيغتها على النحو التالي: "توفير فرص تعليمية للجميع، المواطنة الصالحة والولاء والانتماء، الجودة، العدالة، المساواة، الفاعلية، الكفاءة، المواءمة، بناء شراكات فاعلة".
هل يمكن تحقيق أدنى درجة من العدالة والمساواة في نظام تعليمي طبقي ترسخّ خلال العقدين الأخيرين؟ و قد بات معروفاً أن مقدار ما يدفعه المواطن الأردني من أموال يحدّد بصورة رئيسية المعارف والمهارات التي يكتسبها ابنه في المدرسة الخاصة التي سيتخرّج منها، في ظلّ الانحدار المتواصل الذي يشهده التعليم الحكومي.
الطلبة الأردنيون المتمايزون في لباسهم ومأكلهم ومشربهم وطريقة عيشهم وتعليمهم يُجبرون على اختيار دراسة بحسب تراتبيتهم الاجتماعية/ الاقتصادية، وعند اجتيازهم "التوجيهي"، فإن النظام ذاته يُميّز بينهم لدى التحاقهم بالجامعات، فمن يملك أكثر سيختار تخصّصه الأكاديمي الذي يريد عبر "البرنامج الموازي" أو الجامعات الخاصة أو الدراسة في الخارج.
ومن يُوهب "إحدى المكارم المتعدّدة" يحصل على مقعد جامعي بمعدّل أقل مما ناله زميله ضمن آلية القبول التنافسي، وبدلاً من تنمية التعليم في القرى والبادية والمناطق الأقل حظّاً، فإن "العقل" الرسمي يصرّ على اتباع سياسات تُناقض رؤية وزارة التربية التي أشرنا إليها.
لا تقف حدود الفصام عند وحشية رأس المال المتحكّم بالتعليم أو ممارسة السلطة للتعويض عن إخفاقاتها المتراكمة عقوداً من خلال الاستتثناءات الجامعية، إذ تحضر إحدى أبرز أزمات الهوية في مجتمعنا في ما يتعلّق بلغة التدريس، فلدينا فئة تشعر بالتعالي لأنها تتحدّث بلغة أوروبية واحدة على الأقل وتتخرّج من مدارس خاصة بعينها، والثانية لم تتلق تعليماً جيداً باللغة والحساب وجميع الحقول الدراسية، غير أن كلا الفئتين لا تمتلكان اللغة، حقيقةً، لأنهما عاجزتان عن الإنتاج المعرفي بكل اللغات؛ عربية وإنكليزية.
آن الآوان لمواجهة قاسية لكنها ستقرّر مستقبل الأردنيين، فإما اعتماد العربية لغة وحيدة للتدريس ما يعني تعريب جميع المناهج والمصادر العلمية التي يحتاج الطالب في دراسته الجامعية، وكذلك لغة سوق العمل في القطاع الحاص تحديداً، أو استبدال لغة التدريس لتكون الإنكليزية كما فعلت بلدان عديدة مثل الهند وأقامت نهضتها بناء على ذلك، وللمفارقة فإن إنتاج الهنود للأدب والفن بلغاتهم المحلية في تعاظم مستمر.
في الحديث عن أزمة الهوية ذاتها، فعلى وزير التربية أن يتأكد من مسوحات أجريت في السنوات الأخيرة تشير إلى أن قرابة نصف مدارس المملكة دينية الطابع أو تتبنى مناهج دينية إضافية، وينسحب الأمر على معظم المدارس الحكومية التي يغلب على معلّميها التشدّد الديني، وبذلك نكون أمام مشهد عجائبي حين يتخرّج هؤلاء الطلبة ويقابلهم زملاء لهم في بعض المدارس الخاصة التي تتبنى بيئة غربية في التعليم (باستثناء مدارس معدودة لا تتبنى هذا النموذج أو ذاك).
ويجدر بنا كذلك التساؤل عن المدرسة التي فقدت أهم أدوارها الرئيسة المتمثّل بنشر المعرفة من أجل تحديث المجتمع مع تقادم الزمن، وأُبقي على دور وحيد لها يتجسد بالضبط والسيطرة، والذي يجد في التلقين وسيلته المثلى، فيلقن الطالب أن الإسلام هو الدين الصحيح الوحيد الذي ينظم مناحي الحياة كافةً؛ أي أنه يسمو فوق القانون والدستور بلغة أدق، ليتأسس الانفصام لدى الفرد الذي يحيل إحباطاته وعجزه لأوهام تتعلّق بـ"ابتعاد المجتمع عن الإسلام". وبالطبع، يحضر التلقين "الوطني" الذي يكرس نمطاً بالياً من الولاء للنظام يستهدف قيم المواطنة والدولة المدنية والديمقراطية، ويفرض محفوظاته الصماء حول تأسيس الأردن وتاريخه بما يمجّد الرواية الرسمية والسلالة الحاكمة.
لا نعلم بعد متى يخرج علينا عمر الرزاز برؤيته التي سنناقشه بتفاصيلها حتماً، لكن تقدير منجزه في مواقعه السابقة، يفرض عليه أن يضع خطة مفصّلة هو أول العارفين أنها تتطلّب مدّة زمنية لتنفيذها لا تقلّ عن أربع سنين، وأن يحافظ على نزاهته المعهودة بالإفصاح عن العوامل أو الجهات التي قد تعيق عمله سواء قرّر المضي بمهمته إلى نهاياتها أم لا.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.