فجأة مرض الشيخ نوح وفجأة رحل .. لكن ما بين اللحظتين كان ثمة اختبار لمدى المحبة التي يحظى بها الرجل - رحمه الله - لدى كل من عرفه او سمع به ، مثلما كانت - تماما - سنوات عمره السبعين اختبارا لهذه الشخصية الدينية الفريدة التي تبوأت أكثر المواقع حساسية وأهمية في مجتمعنا.. وأشهد أن سماحته قد نال في هذه الاختبارات الصعبة أعلى درجة ، وخرج منها بأفضل شهادة: شهادة احترام الناس وتقديرهم ، اجماعهم وتوافقهم على سماحته وتواضعه وصحة مواقفه بين ما يرضي الله تعالى وما يقنع المختلفين ، حتى لو كانوا في موقع القرار.
لا أخفي أنني بكيت حين سمعت نبأ رحيل الشيخ نوح ، فلهذا الرجل الذي جمعتني به لقاءات عديدة ، محبة خاصة في قلبي ، لم تجرحها - ابدا - حادثة اختلاف هنا ، او عتب هناك ، وما أكثرها بين الصحفي والديني في مجتمعاتنا التي يشتبك فيها "الفاعلون" في الحقول المختلفة ، لكن يشهد الله ان سماحته وتواضعه وطيبة قلبه ، وابتسامته الدافئة وحتى - عتبه اللطيف - كانت دائما تغمرني حين اسمع صوته أو ألقاه ، فأشعر بفيض "أبوة" نادرة ، ودفقة حنان قلما استشعرها ، وأحس انني أمام نموذج "العالم" الذي قلما يتكرر ، ونموذج "الانسان" الذي فيه معاني الانسانية ، ونموذج "الرجل" صاحب الكلمة والموقف ، ونموذج "الأب" الذي قد يقسو على أبنائه.. من شدة حبه لهم.
يستحق الشيخ نوح أن نذرف دمعة حرّى على فراقه ، لا لأن الموت غيبه عنا فهو حاضر بيننا دائما بعلمه وقيمه واخلاقه ، ولا لأننا افتقدناه في وقت كنا بحاجة اليه ، وأي حاجة؟، وانما لأنه مثل "حالة" نادرة من "التوافق" العام: توافق الديني بشتى اتجاهاته ومواقفه ، وتوافق السياسي مع الديني ، وتوافق "الناس" على الديني صاحب المواقف الشجاعة.. بل وحتى توافق "المختلفين" مع الديني من أقصى اليمين الى أقصى اليسار.
رحل الشيخ نوح ، فخسرنا برحيله "رجلا" جمع العلم مع الحكمة ، والرأي مع شدة العزيمة ، والموقف الجريء مع حسن التدبير ، لكنه مع ذلك لن يغيب ، فقد كان وسيبقى "رمزا" لفاعلية الديني وقدرته على الهام الناس ، وكان "نموذجا" لكل ما نحبه في الاسلام من قيم والتزام واخلاق ، وهو بهذا المعنى حاضر دائما حتى وان رحل الجسد ، روحه حاضرة ، وقامته الطويلة الثابتة على الحق حاضرة ، وأنفاسه الطيبة حاضرة ، لكن ما أخشاه ان نكون بافتقاده قد افتقدنا "القوة" التي تبث الروح في هذه النماذج ، أو افتقدنا "المحرك" الذي يقود قطار خطابنا الديني العملي نحو السكة الآمنة..
رحل الشيخ نوح ، يرحمه الله كفاء علمه الذي نفع ، وعمله الذي أثمر ، ومواقفه التي اقنعت ، واخلاقه التي أصبحت "مدرسة" ، يرحمه الله الذي وسعت رحمته كل شي ، فقد عاش كبيرا ومات كبيرا.. وانا لله وانا اليه راجعون.
الدستور