ديمقراطية زعران!
لا تنفصل حادثة ا عن اعتلال تاريخي لم يفارق الأردن منذ عام 1989، وما سمي حينها بـ"الانفراج الديمقراطي"، الذي قاد إلى أسوأ تسوية بين النظام والمعارضة باعتراف كل منهما بالآخر من دون الاتفاق على شكل الدولة، وتوزيع الثروة والتنمية، وآليات ممارسة الحكم، والرقابة الشعبية.
بانتظار قراءة جذرية منتجة لما حصل خلال ربع قرن من إنهاء الأحكام العرفية، يمكن الاكتفاء بالقول إن الجماهير الغاضبة في "هبة نيسان" بسبب الجوع مُنحت صناديقَ اقتراع لم تعبّر عن إرادتها، ومررت المجالس النيابية السبعة "المنتخبة" اتفاقية السلام، بكل خساراتها، وقوانين الخصخصة التي دمّرت الاقتصاد الوطني، مع تراجعٍ دائمٍ ومضطردٍ لأداء النواب على المستويين التشريعي والرقابي.
وعوضاً أن تتسع دائرة المشاركة الشعبية من خلال الانتخاب وتشريع العمل الحزبي، تكرّس احتكار الحكْم ممثلاً بأذرع السلطة التنفيذية والأمن، التي تغولت على جميع السلطات والرقابات وقوى المجتمع الأهلية، وكلما دقت ساعة الإصلاح (رغم اختزال هذا المفهوم ومعانيه يوماً بعد يوم) جرى الالتفاف على مقررات الأجندة الوطنية عام 2005، ومخرجات لجنة الحوار الوطني عام 2011، واليوم يخشى كثيرون الانقلاب على حزمة تشريعات إصلاحية تناقش حالياً (تجيء متأخرة مع بقاء الشكوك في إمكانية تنفيذها وجدواها).
كل ذلك وقع بينما كانت الحكومات المتعاقبة توزع الخدمات على أزلامها في تشويه متعمد للوطن وناسه، بذريعة تنمية المجتمع المحلي، فيتقاسمون التعيينات عند تشييد كل جامعة حكومية جديدة، ويخطئ من يعتقد أن أهل تلك المحافظة قد استفادوا من الوظائف والابتعاث، إنما ظفِر بها فقط أولئك المحسوبون على هذا المسؤول الحكومي، أو ضابط الأمن، أو رجل الأعمال في محافظاتهم.
وعلى المنوال نفسه، كان التعامل مع تعيينات البلديات، والعديد من المؤسسات الحكومية والهيئات المستقلة، ولدى تأمين مقاعد جامعية تحت قائمة طويلة من الاستثناءات، وكذلك بعثات الحج وغيرها مما يدخل في باب الحقوق أو التعدي على هذه الحقوق، بلغة أدق، حيث أعطيت هبات ومكرمات بوساطة ممثلي السلطة، بينما كان الأولى والأجدر أن توزع بعدالةٍ وإنصاف، وتخضع لرقابة تضمن ذلك.
النواب الذين يمررون جميع ما تحتاجه السلطة من قوانين ينالون هذه الترضيات، وأساتذة الجامعات الموالون يشغلون كذلك مناصب إدارية في كلياتهم ومقاعد الوزارة والأعيان بقدر ضبطهم للطلبة وأنشطتهم، لا وفق كفاءاتهم وجدارتهم، ويدير الإعلام –في معظم مؤسساته- مجموعة من الأميين والظلاميين يحرضون ضد كل قيم التنوير والحداثة، ويعادون مواطنين وأشقاء عرب ووافدين بالجملة بسبب خطأ فردي، ولا يحاسِبهم أحد على أخطائهم المهنية الفادحة، وارتزاقهم لأطراف داخلية وخارجية، طالما أنّهم يقومون بضبط الرأي العام عند كل أزمة أو هزة يتعرض إليها الحكْم.
ممثلو السلطة؛ منتخبين أو غير منتخبين، يتنافسون فيما بينهم لإدامة السيطرة والضبط الاجتماعي لها، مخالفين القانون وأعراف المجتمع أحياناً كثيرة، وما الاعتداء الذي قام به أحدهم ضد عامل مصري في أحد مطاعم العقبة إلاّ مثالاً عابراً لـ"زعرنة" معروفة للجميع، وإن لم تتخذ العنف شكلاً لها.
الزعران يشنون غزواتهم، ويمارسون استقواءهم، مدعومين من جهات معلومة، فيتصدر المشهد كاتب صحافي همّه الأول تعميق الانقسام العمودي بين المواطنين، أو داعية يشتم مكوناً أصيلاً من المجتمع من دون مساءلة، و"كتبة" مناهج دراسية يفشلون للمرة العاشرة بصياغة منهاج للتربية الوطنية خالٍ من الداعشية والتطرف، ومذيع يجيد كل أشكال الردح إذا ما تلقى الأوامر بمهاجمة شخص أو جهة بعينها.
تعيق السلطات تنظيم النقابات والجمعيات الأهلية ما لم تصبح هذه التشكيلات مجرد كوابح لحركة الأفراد والجماعات المنضوين تحتها، ليغيب القانون وآليات الرقابة، ويحلّ محلهما الولاء الذي يصبح المُنظِّم الرئيس لسلوك الطامعين بالسلطة، أو الخائفين منها لا يرومون إلاّ رضاها وكفّ شرّها عنهم.
الإخفاق في تأسيس دولة القانون والمؤسسات، طوال عقود ستة أو سبعة، حوّلنا إلى مواطنين تسلبهم المكرمات والرشاوى الرسمية حقوقهم، وإمكانية تحسين واقعهم، ليكونوا أمام خيارين؛ الوصول إلى مرتبة "أزعر" باعتراف رسمي، أو تحوّل فائض غضبهم إلى "زعرنات" غير ممنهجة عبر انفجارات اجتماعية يظهرها ارتفاع نسب الجريمة والعنف والتفكك الأسري واللقطاء والأمراض النفسية وغيرها.
"الزعرنة" داء لا يقتصر على المجتمعات البدائية، فهناك أنظمة تبرع في نشره باسم الديمقراطية والحكم الرشيد!
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.