دولة الخرافة
أظلنا زمان الجهاد، والجهاد في سبيل الله متعة، هو الفقر اللى إحنا فيه ده مش بسبب تركنا للجهاد؟ مش لو كنا كل سنة عمالين نغزو مرة ولا اتنين ولا تلاتة مش كان هيسلم ناس كتير في الأرض، واللي يرفض هذه الدعوة ويحول بيننا وبين دعوة الناس مش بنقاتله وناخدوهم اسرى وناخدوا اموالهم وأولادهم ونساؤهم وكل دي عبارة عن فلوس، كل واحد كان هيرجع من الغزوة جايب معاه أسرى تلات أربع أشحطة وتلات أربع نسوان وتلات أربع ولاد، اضرب كل رأس في ستميت درهم ولا ستميت دينار يطلع بمالية كويسة، ولو رايح علشان تعمل صفقة عمرك ما هتعمل الأموال دي، وكل ما الواحد يتعذر ياخد رأس يبيعها ويفك أزمته ويبقاله الغلبة"
هذه العبارات المبتذلة التي يشكل كل منها جريمةً قائمةً بذاتها وفقاً لمعظم قوانين العقوبات (التحريض على القتل، الإرهاب، تعكير العلاقات بدول أجنبية، إزدراء وذم وقدح الأقليات، الكراهية والتمييز على أساس الدين...)؛ صرّح بها عن قناعة ودراية وعلم شيخ مشايخ السلفية وكبير المُحدّثين المعاصرين؛ أبو إسحاق الحويني منذ بضع سنوات في إحدى "عظاته" لتلامذته. لم يفترِ الحويني تلميذ الشيخ الراحل ناصر الدين الألباني على الدين بل قدّمه بصورة مبسطة يفهمها العامة من مريديه، سبق الحويني أئمة متقدمون فصّلوا في دور الغزو والاحتلال بوصفه من أهم الموارد الاقتصادية للدولة، وعلى المستزيد الرجوع للصحاح وغيرها من كتب الحديث في أبواب الجهاد والغنائم والجزية...
اللافت للنظر في كلام الحويني وغيره من الفقهاء المتقدمين نبرة الإستعلاء على الآخر وتعمد ازدرائه وتحقيره إلى درجة يعجز أي روائي سادي النزعة نرجسي الشخصية عن تجسيدها.
يقول ابن القيم في مصنّفه الشهير "أحكام أهل الذمة" حول علة تشريع الجزية: "فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالاً وصَغاراً"، هذا القول يبيّن المرجع الأصولي الفقهي الذي استقى منه الحويني لغته غير الأخلاقية حينما ينعت البشر بـ"الرؤوس" وكأني بالرجل يجلس في حظيرة أغنام وليس في مجلس عظة أو علم.
يشير ابن القيم في ذات المصنّف إلى جملة أقوال "العلماء" في كيفية تحقق "الصَغار"، فمن الجر إلى الضرب مروراً بجعل يد الجابي فوق يد مؤدّي الجزية... انتهاءً بإخضاعه لأحكام شريعة غير شريعته؛ تتجلّى أهمية هذه الإتاوة التي يفتدي بها غير المسلم نفسه ليبقى حيّاً ولا يُنفَى من وطنه مع بقائه ذليلاً ممتهن الكرامة.
يسود اعتقاد مغلوط عند عامة المسلمين مفاده أن الجزية إنما تجب على الكتابي (المسيحي واليهودي)، في حين أن الصواب عند جمهور "أهل العلم" -كما ينقل ابن القيم وكُثُرٌ غيره- أنها واجبة على المجوس وغيرهم من "الكفار"، الأمر الذي يُدلِّل على الدور الحيوي الذي تلعبه الجباية بالإكراه في اقتصاد "دولة الخلافة" باعتبارها -أي الجباية- تُشكِّل أحد أهم مقومات ذلك الاقتصاد.
الإذلال يقابله الاستعلاء وتحقير الخاضع لسلطة المُذِل، وهذا ما تنطوي عليه فلسفة الجزية التي إذا ما زيد عليها علّة حرمان غير المسلم من دخول مكة والمدينة حتى يومنا هذا، تكتمل الصورة النرجسية الشوفينية المروّعة التي تتسم بها "دولة الخلافة". فقد نقل ابن القيم في مصنّفه محل البحث عن سعيد بن المسيّب، وهو من كبار علماء عصره؛ أن غير المسلمين ليسوا سوى "نَجَس أسوأ من الجُنُب والحائض" وذلك استناداً لنص الآية التي حرمّت عليهم دخول المسجد الحرام، لينسحب هذا الحكم باجتهاد "العلماء" إلى المدينة المنورة بل إلى كامل شبه جزيرة العرب عند بعضهم.
لا يكاد يقبل العقل استمراء ألسنة هؤلاء القوم إنزال هذه الأحكام والأوصاف المُسِفّة على من يفترض بأنهم مواطنون تؤخَذ أموالهم منهم عنوةً لتُجهَز بها جيوش مهمتها غزو الأقطار وإخضاع إهلها ليدفعوا بدورهم الجزية وهكذا دواليك.
مفهوم المواطنة كما نعرفه اليوم ليس له وجود بل هو كفرٌ بواحٌ في "دولة الخلافة" التي لا تعرف ولا تعترف إلا بمن اعتنق الدين سواءً عن اقتناع أو بالإكراه أو لضيق ذات اليد وعدم التمكن من دفع الجزية أو بـ"الرشوة الحلال" (سهم المؤلفة قلوبهم).
إن داعش وأمثاله حيث يمارسون طقوس الجزية ونهب الغنائم، إنما يستندون إلى مرجعيات قوية موثّقة لا يقوى على منازعتها التبريرات الشخصية الهزيلة التي يدور أصحابها في حلقة مفرغة، وكذلك فإنّ خشية الغرب المزعومة من الإسلام مرجعها ليس جاذبية أدبياته الفقهية بل وحشية الكثير منها ونقضها لمقومات الحضارة التي يمثل التعايش المشترك حجر زاويتها.
إن دولةً قوام اقتصادها الإتاوات والغنائم المسلوبة من الغير، وركيزة عقدها الاجتماعي قاعدة: إما أن تعتنق الدين أو تقضي عمرك ذليلاً ومدين؛ لهيَ دولة الخرافة وليست دولة الخلافة.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.