دروب هامسون المأساوية

دروب هامسون المأساوية
الرابط المختصر

وجهة نظر:

 

لا أظن أحداً يمكنه أن يعتبر الالتباسات الأميركية الملغزة في صعود النازية مجرد مصادفات خالية من المعنى؛ ومن أبسط هذه العجائب مفارقة صغيرة جمعت بين أحد أعظم كتّاب العالم وبين أشهر أباطرة الصناعة في تأييد النازية، وكان كلاهما ينطلق من «أرضية» أميركية.

 

أعني النرويجي كنوت هامسون، والأميركي هنري فورد.

 

يشتهر كنوت هامسون، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1920، بروايته «الجوع» التي تعتبر من الروائع الأدبية في القرن العشرين، وفيها يبدو تأثره بأعمال وأفكار فيودر ميخائيلوفيتش (دستويفسكي) واضحاً إلى درجة يصبح فيها من العجب أن يكون عمل أدبي ما أصلياً وفريداً إلى هذه الدرجة، مع أنه مشبع بروح آثار سابقة!

 

كانت الإقامة في أميركا واحدة من محفزات هامسون في الكتابة، وفي صياغته لأفكاره، وظهر هذا في كتبه ومحاضراته حول الحياة الثقافية في أمريكا الحديثة و«الحياة اللاواعية للروح»، وهجومه الحاد على المادية الأمريكية «الصاخبة» و«الديمقراطية الأميركية المزيّفة».‏ وروايته «الجوع» التي حققت له شهرة عالمية واسعة، ورواياته الأخرى، تمثل مرافعة ضد الحضارة المادية ومظاهرها التي «لوثت الحياة الإنسانية».

 

لم تكن أوروبية هامسون هي ما دعته إلى عداء أميركا، فهو ليس فريداً في ذلك، فقد شاركه هذا الموقف بعض من ألمع أبناء أميركا نفسها، ويمكننا هنا أن نتذكر عزرا باوند العاجز عن التأقلم مع المجتمع الأميركي، الذي يهرب إلى أوروبا مطلع القرن الماضي، لينتهي به الأمر إلى تأييد الفاشية الإيطالية.

 

العداء لـ«المادية الأمريكية الصاخبة» قاد هامسون إلى الافتخار بجذوره الريفية، والتباهى بها، بل إنه حاول أن يبتكر ما كان يسميه بـ«الرومانسية الزراعية» المضادة لصخب المدينة الحديثة وللحضارة المادية.

 

وعندما صعد النازيون إلى السلطة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، راح كنوت همسون يحثهم على ضرورة حماية النرويج من «الخطر البريطاني» وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية، ناصَر النازية وحرّض أهل النرويج على مناصرة النازيين.

 

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حوكم وأودع مصحة الأمراض العقلية (وهو المصير الذي واجهه عزرا باوند بالمناسبة). وهناك كتب نصاً للدفاع عن نفسه وعن أفكاره حمل عنوان «على الدروب الخضراء النضرة».‏ وظل مقتنعاً أن التاريخ الذي أهدى خصومه الأميركيين والبريطانيين دوراً مقدراً من المجتمع الدولي، لا يحولهم من أعداء للإنسانية إلى شركاء فيها. وأن مأساته هي حظ المهزومين الذين يصطدمون بحقيقة أن النصر أعلى صوتاً من الحقائق التي يؤمنون بها، ومن دوافعهم المخلصة!

 

وفي سنواته الأخيرة، عاش هامسون في عزلة، وكان أهل بلاده يعاملونه باعتباره «خائن». لذا، اشتدت عليه في أواخر حياته النوبات العصبية التي كانت تصيبه حتى لم يعد يعي ما يقول وما يفعل.‏ ومع ذلك فلا تزال أعماله الأدبية تفتن الملايين إلى اليوم.

 

والمفارقة الهامة هنا؛ أن كنوت هامسون، المؤيد للنازية، كان مبجلاً ومقدراً في الاتحاد السوفياتي حتى في عهد زعيمه الأشهر ستالين. ولكن مع ذلك فإن هامسون الذي كان يُطبع بغزارة في الدولة السوفيتية، لم يتعرض للتعسف هناك، وخيبة الأمل به لم تجر إلى ردة فعل انتقامية، رغم أن المطابع السوفيتية تراخت في طباعة أعماله سنوات الحرب. وهذا مفهوم تماماً ويمكن تفسيره ليس فقط بالجفاء المبرر، إنما بظروف وأولويات الحرب نفسها.

 

وعموماً، فالمقارنة بين المقاربتين السوفيتية والغربية بما يتعلق بمحاسبة النازيين ومناصريهم تظهر ما هو أخطر من ذلك؛ فالغرب اندفع لعقد المحاكمات لنازيي ألمانيا ومؤيديهم، لكنه تراخى مع اليابانيين. وتظهر الوثائق أن قائد الدولة السوفيتية ستالين كان يلح على محاسبة المسؤولين السياسيين والعسكريين اليابانيين عن الحرب، ولكن الولايات المتحدة وبريطانيا المعنيتان بفرض الرواية الصهيونية على الأوروبيين، ركزتا على خصوم الحرب الألمان ومؤيديهم.

 

بالمقابل، أثار تأييد كنوت هامسون للنازية سؤالاً سوفيتياً كبيراً: «ما الذي يدعو شعوباً متحضرة مثل الألمان، والنرويجيين، والهولنديين إلى تأييد النازية؟». ليست المقاربات السوفيتية الرسمية حول هذا السؤال متاحة. لكن يمكننا أن نلنقط من بعض الإشارات ما يلي:

 

  • - عرّف هامسون الرومانسي أعداءه بـ«المجتمع الغربي المادي»، وكان يندب الحضارة الغربية التقليدية وقيمها؛ وهو في الواقع أخطأ في تعريف أعدائه، وتاه بالتالي في اختيار اصطفافاته. وكان يتحدث عن «الحضارة الغربية» في الوقت الذي كان يجدر به أن يفكر بالرأسمالية.
  • - أما دفاعه عن «الحضارة الغربية التقليدية» فهو عن استماتة مذعورة لأجل الرأسمالية الصناعية، رغم هذيانه وشكواه من غزو الصناعة للحياة، وهذا عموماً يعكس هلع الهامش من التحول إلى الرأسمالية المالية.
  • - هناك، كذلك، عدائه المتأصل للثقافة الأنجلو سكسونية.
  • - في الحسبة الكاملة، كان هامسون بحاجة إلى فكرة عصبوية تذكره بالجماعة الزراعية البسيطة، التي عاش كل عمره معتقداً أنه ينتمي إليها. ولهذا فإن عصبوية النازية كانت أكثر مما يتمنى.
  • - يمكن هنا تحديداً فهم لحظة دقيقة: أعجب هامسون بالنازية لأنها، بالذات، كانت محاولة إلى العودة بالرأسمالية إلى «الوراء»، الذي يعتقد أنه ترك فيه كل شيء!

 

ويجزم الشاعر اللينينغرادي بيوتر ستارتسوف أنه لا يوجد بلد أحب وقدر كنوت هامسون أكثر من روسيا. فقد أُعجب به غوركي، وتشيخوف، وكوبرين، وألكسندر بلوك، وأخماتوفا، ودانييل هارمس غير المعروف في عالمنا العربي. واليوم بينما تحتفل روسيا بالذكرى السبعين للانتصار على النازية، فإنها لا تتمكن من التغلب على حب وتقدير الكاتب الذي ساند ألد أعدائها.

 

لذا، هل كثير أن يتساءل المرء بجد عن لماذا أسهمت العجائب الأميركية في صعود النازية، وخلقت وتخلق لليوم لها أنصاراً غير متوقعين!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

 

أضف تعليقك